تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٨٦
المعنى من جنسي الغني والفقير. وقرأ عبد الله: إن يكن غني أو فقير على أن كان تامة.
* (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) * لما أمر تعالى بالقيام بالعدل وبالشهادة لمرضاة الله نهى عن اتباع الهوى، وهو ما تميل إليه النفس مما لم يبحه الله تعالى وإن تعدلوا من العدول عن الحق، أو من العدل وهو القسط. فعلى الأول يكون التقدير: إرادة أن تجوروا، أو محبة أن تجوروا. وعلى الثاني يكون التقدير: كراهة أن تعدلوا بين الناس وتقسطوا. وعكس ابن عطية هذا التقدير فقال: يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا، ويكون العدل بمعنى القسط كأنه قال: انتهوا خوف أن تجوروا، أو محبة أن تقسطوا. فإن جعلت العامل تتبعوا فيحتمل أن يكون المعنى: محبة أن تجوروا انتهى كلامه. وهذا الذي قرره من التقديره يكون العامل في أن تعدلوا فعلا محذوفا من معنى النهي، وكان الكلام قد تم عند قوله: فلا تتبعوا الهوى، ثم أضمر فعلا وقدره: انتهوا خوف أن تجورا، أو محبة أن تقسطوا، ولذلك قال: فإن جعلت العامل تتبعوا. والذي يدل عليه الظاهر أن العامل هو تتبعوا، ولا حاجة إلى إضمار جملة أخرى، فيكون فعلها عاملا في أن تعدلوا. وإذا كان العامل تتبعوا فيكون التقدير الأول هو المتجه، وعلى هذه التقادير فإن تعدلوا مفعول من أجله. وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون التقدير: أن لا تعدلوا، فحذف لا، أي: لا تتبعوا الهوى في ترك العدل. وقيل: المعنى لا تتبعوا الهوى لتعدلوا أي: لتكونوا في اتباعكموه عدولا، تنبيها أن اتباع الهوى وتحري العدالة متنافيان لا يجتمعان. وقال أبو عبد الله الرازي: المعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل، والعدل عبارة عن ترك متابعة الهوى، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر، فالتقدير: لأجل أن تعدلوا.
* (وإن تلووا أو تعرضوا) * الظاهر أن الخطاب للمأمورين بالقيام بالقسط، والشهادة لله، والمنهيين عن اتباع الهوى. وقال ابن عباس: هو في لي الحاكم عنقه عن أحد الخصمين. وقال مجاهد نحوه قال: لي الحاكم شدقه لأحد الخصمين ميلا إليه. وقال ابن عباس أيضا، والضحاك، والسدي، وابن زيد، ومجاهد: هي في الشهود يلوي الشهادة بلسانه فيحرفها ولا يقول الحق فيها، أو يعرض عن أداء الحق فيها، ويقول معناه: يدافعوا الشهادة من لي الغريم. وقال لزمخشري: وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق، أو حكومة العدل، أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها.
وقرأ جماعة في الشاذ، وابن عامر، وحمزة: وإن تلوا بضم اللام بواو واحدة، ولحن بعض النحويين قارىء هذه القراءة. قال: لا معنى للواية هنا، وهذا لا يجوز لأنها قراءة متواترة في السبع، ولها معنى صحيح وتخريج حسن. فنقول: اختلف في قوله: وإن تلووا.
فقيل: هي من الولاية أي: وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها، والولاية على الشيء هو الإقبال عليه. وقيل: هو من اللي واصله: تلووا، وأبدلت الواو المضمومة همزة، ثم نقلت حركتها إلى اللام وحذفت. قال الفراء، والزجاج، وأبو علي، والنحاس، ونقل عن النحاس أيضا أنه استثقلت الحركة على الواو فألقيت على اللام، وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين.
* (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * هذا فيه وعيد لمن لوى عن الشهادة أو أعرض عنها.
* (خبيرا يأيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل) * مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالقيام بالقسط، والشهادة لله، بين أنه لا يتصف بذلك إلا من كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية فأمر بها. والظاهر أنه خطاب للمؤمنين. ومعنى: آمنوا دوموا على الإيمان قاله: الحسن، وهو أرجح.
(٣٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 381 382 383 384 385 386 387 388 389 390 391 ... » »»