تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٨٢
تفرق بالقول، وهو طلاق لأنه مختص بالزوج، ولا نصيب للمرأة في التفرق القولي، فيسند إليها خلافا لمن ذهب إلى أن التفرق هاهنا هو بالقول وهو الطلاق. وقرأ زيد بن أفلح: وإن يتفارقا بألف المفاعلة أي: وإن يفارق كل منهما صاحبه. وهذه الآية نظير قوله تعالى: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * وقول العرب: إن لم يكن وفاق فطلاق. فنبه تعالى على أن لهما أن يتفارقا، كما أن لهما أن يصطلحا. ودل ذلك على الجواز قالوا: وفي قوله تعالى: يغن الله كلا من سعته إشارة إلى الغنى بالمال. وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما رووا طلقة ذوقة فقيل له في ذلك فقال: إني رأيت الله تعالى علق الغنى بأمرين فقال: * (وأنكحوا الايامى) * الآية، وقال: وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته.
* (وكان الله واسعا حكيما) * ناسب ذلك ذكر السعة، لأنه تقدم من سعته. والواسع عام في الغنى والقدرة والعلم وسائر الكمالات. وناسب ذكر وصف الحكمة، وهو وضع الشيء موضع ما يناسب، لأن السعة ما لم تكن معها الحكمة كانت إلى فساد أقرب منها للصلاح قاله الراغب. وقال ابن عباس: يريد فيما حكم ووعظ. وقال الكلبي: فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان. وقال الماتريدي: أو حيث ندب إلى الفرقة عند اختلافهما، وعدم التسوية بينهما.
* (ولله ما فى * السماوات وما في الارض) * لما ذكر تعالى سعة رزقه وحكمته، ذكر أن له ملك ما في السماوات وما في الأرض، فلا يعتاض عليه غنى أحد، ولا التوسعة عليه، لأن من له ذلك هو الغني المطلق.
* (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) * وصينا: أمرنا أو عهدنا إليهم وإليكم، ومن قبلكم: يحتمل أن يتعلق بأوتوا وهو الأقرب، أو بوصينا. والمعنى: أن الوصية بالتقوى هي سنة الله مع الأمم الماضية فلستم مخصوصين بهذه الوصية. وإياكم عطف على الموصول، وتقدم الموصول لأن وصيته هي السابقة على وصينا فهو تقدم بالزمان. ومثل هذا العطف أعني: عطف الضمير المنصوب المنفصل على الظاهر فصيح جاء في القرآن وفي كلام العرب، ولا يختص بالشعر، وقد وهم في ذلك بعض أصحابنا وشيوخنا فزعم أنه لا يجوز إلا في الشعر، لأنك تقدر على أن تأتي به متصلا فتقول: آتيك وزيدا. ولا يجوز عنده: رأيت زيدا وإياك إلا في الشعر، وهذا وهم فاحش، بل من موجب انفصال الضمير كونه يكون معطوفا فيجوز قام زيد وأنت، وخرج بكر وأنا، لا خلاف في جواز ذلك. فكذلك ضربت زيدا وإياك.
والذين أوتوا الكتاب هو عام في الكتب الإلهية، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الذين أوتوا الكتاب باليهود والنصارى كما ذهب إليه بعض المفسرين، لأن وصية الله بالتقوى لم تزل مذ أوجد العالم، فليست مخصوصة باليهود والنصارى. وإن اتقوا: يحتمل أن تكون مصدرية أي: بأن اتقوا الله، وأن تكون مفسرة التقدير أي: اتقوا الله لأن وصينا فيه معنى القول.
* (وإن تكفروا) * ظاهره الخطاب لمن وقع له الخطاب بقوله: وإياكم، وهم هذه الأمة، ويحتمل أن يكون شاملا للذين أوتوا الكتاب وللمخاطبين، وغلب الخطاب على ما تقرر في لسان العرب كما تقول: قلت لزيد ذلك لا تضرب عمرا، وكما تقول: زيد وأنت تخرجان.
* (فإن لله ما فى * السماوات وما في الارض) * أي أنتم من جملة من يملكه تعالى وهو المتصرف فيكم، إذ هو خالفكم والمنعم عليكم بأصناف النعم وأنتم مملوكون له، فلا يناسب أن تكفروا من هو مالككم وتخالفون مره، بل حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يتقى عقابه ويرجى ثوابه، ولله ما في سمائه وأرضه من يوحده ويعبده ولا يعصيه.
* (وكان الله غنيا) * أي عن خلقه وعن عبادتهم لا تنفعه طاعتهم، ولا يضره كفرهم.
* (حميدا) * أي مستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه وإن كفرتموه أنتم.
* (ولله ما فى * السماوات وما في الارض * وكفى بالله وكيلا) * الوكيل القائم بالأمور المنفذ فيها ما يراه، فمن له ملك ما في السماوات والأرض فهو كاف فيما يتصرف فيه لا يعتمد على غيره. وأعاد قوله: ولله ما في السماوات وما في الأرض ثلاث مرات بحسب السياق. فقال ابن عطية: الأول: تنبيه على موضع الرجاء يهدي المتفرقين. والثاني: تنبيه على استغنائه عن العباد. والثالث:
(٣٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 377 378 379 380 381 382 383 384 385 386 387 ... » »»