تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٨٠
المبالغة جعل الشح كأنه شيء معد في مكان. وأحضرت الأنفس وسيقت إليه، ولم يأت، وأحضر الشح الأنفس فيكون مسوقا إلى الأنفس، بل الأنفس سيقت إليه لكون الشح مجبولا عليه الإنسان، ومركوزا في طبيعته، وخص المفسرون هذه اللفظة هنا. فقال ابن عباس وابن جبير: هو شح المرأة بنصيبها من زوجها ومالها. وقال الحسن وابن زيد: هو شح كل واحد منهما بحقه. وقال الماتريدي: ويحتمل أن يراد بالشح الحرص، وهو أن يحرص كل على حقه يقال: هو شحيح بمودتك، أي حريص على بقائها، ولا يقال في هذا بخيل، فكان الشح والحرص واحد في المعنى، وإن كان في أصل الوضع الشح للمنع والحرص للمطلب، فأطلق على الحرص الشح لأن كل واحد منهما سبب لكون الآخر، ولأن البخل يحمل على الحرص، والحرص يحمل على البخل انتهى.
وقال الزمخشري: في قوله: والصلح خير، وهذه الجملة اعتراض وكذلك قوله: وأحضرت الأنفس الشح. ومعنى إحضار الأنفس الشح: إن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا ولا تنفك عنه، يعني: أنها مطبوعة عليه. والغرض أن المرأة لا تكاد تسمح بأن يقسم لها، أو يمسكها إذا رغب عنها وأحب غيرها انتهى. قوله. والصلح خبر جملة اعتراضية، وكذلك وأحضرت الأنفس الشح هو باعتبار أن قوله: * (وإن يتفرقا) * معطوف على قوله: * (فلا جناح عليهما أن يصلحا) * وقوله: ومعنى إحضار الأنفس الشح إن الشح جعل حاضرا لا يغيب عنها أبدا، جعله من باب القلب وليس بجيد، بل التركيب القرآني يقتضي أن الأنفس جعلت حاضرة للشح لا تغيب عنه، لأن الأنفس هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وهي التي كانت فاعلة قبل دخول همزة النقل، إد الأصل: حضرت الأنفس الشح. على أنه يجوز عند الجمهور في هذا الباب إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل على تفصيل في ذلك؛ وإن كان الأجود عندهم إقامة الأول. فيحتمل أن تكون الأنفس هي المفعول الثاني، والشح هو المفعول الأول، وقام الثاني مقام الفاعل. والأولى حمل القرآن على الأفصح المتفق عليه. وقرأ العدوي: الشح بكسر الشين وهي لغة.
* (وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * ندب تعالى إلى الإحسان في العشرة على النساء وإن كرهن مراعاة لحق الصحبة، وأمر بالتقوى في حالهن، لأن الزوج قد تحمله الكراهة للزوجة على أذيتها وخصومتها لا سيما وقد ظهرت منه أمارات الكراهة من النشوز والإعراض. وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم) بهن (فإنهن عوان عند الأزواج). وقال الماتريدي: وإن تحسنوا في أن تعطوهن أكثر من حقهن، وتتقوا في أن لا تنقصوا من حقهن شيئا. أو أن تحسنوا في إيفاء حقهن والتسوية بينهن، وتتقوا الجور والميل وتفضيل بعض على بعض. أو أن تحسنوا في اتباع ما أمركم الله به من طاعتهن، وتتقوا ما نهاكم عنه عن معصيته انتهى. وختم آخر هذه بصفة الخبير وهو علم ما يلطف إدراكه ويدق، لأنه قد يكون بين الزوجين من خفايا الأمور ما لا يطلع عليه إلا الله تعالى، ولا يظهران ذلك لكل أحد. وكان عمران بن حطان الخارجي من أدم الناس، وامرأته من أجملهن، فأجالت في وجهه نظرها ثم تابعت الحمد لله، فقال: ما لك؟ قالت: حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله الجنة الشاكرين والصابرين.
* (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) * قال ابن عطية: روي أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم) وميله بقلبه إلى عائشة رضي الله عنها انتهى. ونبه تعالى على انتفاء استطاعة العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة، ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن، وفي ذلك عذر للرجال فيما يقع من التفاوت في الميل القلبي، والتعهد، والنظر، والتأنيس، والمفاكهة. فإن التسوية في ذلك محال خارج عن حد الاستطاعة، وعلق انتفاء الاستطاعة في التسوية على تقدير وجود الحرص من الانسان على ذلك. وقيل: معنى أن تعدلوا في المحبة قاله: عمر، وابن عباس، والحسن. وقيل: في التسوية والقسم. وقيل: في الجماع. وعن النبي صلى الله عليه وسلم) (أنه كان يقسم بين
(٣٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 375 376 377 378 379 380 381 382 383 384 385 ... » »»