بحث ونظر وتجربة، فأخبروهم بحقيقة ذلك، وأن الأمر ليس جاريا على أول خبر يطرأ.
قال الزمخشري: هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال والاستبطان للأمور، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم) من أمن وسلامة أو خوف وخلل أذاعوا به، وكانت إذاعتهم مفسدة. ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله، وإلى أولي الأمر منهم وهم: كبار الصحابة البصراء بالأمور، أو الذين كانوا يؤمرون منهم لعلمه، لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستنبطونه أي: الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. وقيل: كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار، فيذيعونه فينشر، فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة، ولو ردوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم، وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمه الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه، وما يأتون ويدرون فيه. وقيل: كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنونا غير معلوم الصحة فيذيعونه، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر، وقالوا: نسكت حتى نسمعه منهم، ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع؟ لعلمه الذين يستنبطونه منهم لعلم صحته، وهل هو مما يذيع هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر أي: يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم انتهى كلامه.
وهذه كلها تأويلات حسنة، وأجراها على نسق الكلام هذا التأويل الأخير وهو: أن المعنى إذا طرأ خبر بأمن المسلمين أو خوف، فينبغي أن لايشاع، وأن يرد إلى الرسول وأولي الأمر، فإنهم يخبرون عن حقيقة الأمر فيعلمه من يسألهم، ويستخرج ذلك من جهتهم، لأن ما أخبر به الرسول وأولوا الأمر إذ هم مخبرون عنه حق لا شك فيه. وقال أبو بكر الرازي: في هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث، لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول في حياته إذ كانوا بحضرته، وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته، والمنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه، فثبت بذلك أن من الأحكام ما هو مودع في النص قد كلف الوصول إلى علمه بالاستدلال والاستنباط. وطول الرازي في هذه المسألة اعتراضا وانفصالا واستقرأ من الآية أحكاما.
قال: ويدل على بطلان قول القائل بالإمامة: لأنه لو كان كل شيء من الأحكام منصوصا عليه يعرفه الإمام لزال موضع الاستنباط، وسقط الرد إلى أولي الأمر، بل كان الواجب الرد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص. وقال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير ما نصه في ذلك الكتاب: وقد لاح لي في هذه الآية أن في الكلام حذفا وتقديما وتأخيرا وأن هذا الكلام متعلق بالذي قبله مردود إليه، ويكون التقدير: أفلا يتدبرون القرآن، ولو تدبروه لعلموا أنه من كلام الله، والمشكل عليهم من متشابهه لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم يعني: لعلم معنى ذلك المتشابه الذين يستنبطونه منهم من أهل العلم بالكتاب إلا قليلا، وهو ما ستأثر الله به من علم كتابه ومكنون خطابه. ثم قال: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، والذي حسن لهم ذلك وزينه الشيطان، ثم التفت إلى المؤمنين فقال: * (ولولا فضل الله عليكم) * وقد أشار إلى شيء من هذا أبو طالب المكي في كتابه المعروف بقوت القلوب، وقال: إن قوله: * (إلا قليلا) * متصل بقوله * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * وعلى هذا يكون الاستنباط استخراجا من معنى اللفظ المتشابه بنوع من النظرة والاجتهاد والتفكر انتهى كلامه. وهو كما ترى تركيب ونظم غير تركيب القرآن ونظمه، وكثيرا ما يذكر هذا الرجل في القرآن تقديما وتأخيرا، وأغرب من ذلك أنه يجعله من أنواع علم البيان، وأصحابنا وحذاق النحويين يجعلونه من باب ضرائر الأشعار، وشتان ما بين القولين. وقرأ أبو السمال: لعلمه بسكون اللام. قال ابن عطية: وذلك مثل شجر بينهم انتهى. وليس مثله لأن تسكين علم قياس مطرد في لغة تميم