تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٠٨
الاستسقاء. وقيل: المراد بقوله من الرجال والنساء الأحرار، وبالولدان المذكرو * (والذين يقولون ربنا * أخرجنا) * ليس لهم من القوة والمنعة من الظلم إلا بالدعاء والاستنصار بالله تعالى، والقرية هنا مكة بإجماع.
وتكلموا في جريان الظالم وهو مذكر على القرية وهو مؤنث، وهذا من واضح النحو. وقال الزمخشري: لو أنث فقيل: الظالمة، أو جمع فقيل: الظالمين، وأجاب عن ذلك وهذا لم يقرأ به، فيحتاج إلى الكلام فيه. ولو تعرضنا لما يجوز في العربية في تراكيب القرآن لطال ذلك وخرجنا به عن طريقة التفسير. ووصف أهلها بالظلم إما لإشراكهم، وإما لما حصل منهم من شدة الوطأة على المؤمنين وإذلالهم.
قال ابن عطية: والآية تتناول المؤمنين والأسرى، وحواضر الشرك إلى يوم القيامة انتهى. ولما دعوا ربهم أجاب كثيرا منهم في الخروج، فهاجر بعضهم إلى المدينة، وفر بعضهم إلى الحبشة، وبقي بعضهم إلى الفتح. والجمهور على أن الله تعالى استجاب دعاءهم، فجعل لهم من لدنه خير ولي وناصر وهو محمد صلى الله عليه وسلم)، فتولاهم أحسن التولي، ونصرهم أقوى النصر. ولما خرج من مكة ولى عليهم عتاب بن أسيد وعمره أحد وعشرون سنة، فرأوا منه الولاية والنصر كما سألوا. قال ابن عباس: كان ينصف الضعيف من القوي، حتى كانوا أعز بها من الظلمة.
* (الذين ءامنوا يقاتلون فى سبيل الله والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان) * لما أمر تعالى المؤمنين أولا بالنفر إلى الجهاد، ثم ثانيا بقوله: * (فليقاتل فى سبيل الله) * ثم ثالثا على طريق الحث والحض بقوله: * (وما لكم لا تقاتلون) * أخبر في هذه الآية بالتقسيم أن المؤمن هو الذي يقاتل في سبيل الله، وأن الكافر هو الذي يقاتل في سبيل الطاغوت، ليبين للمؤمنين فرق ما بينهم وبين الكفار، ويقويهم بذلك ويشجعهم ويحرضهم. وإن من قاتل في سبيل الله هو الذي يغلب، لأن الله هو وليه وناصره. ومن قاتل في سبيل الله الطاغوت فهو المخذول المغلوب. والطاغوت هنا الشيطان لقوله: فقاتلوا أولياء الشيطان. وهنا محذوف، التقدير: فقاتلوا أولياء الشيطان فإنكم تغلبونهم لقوتكم بالله، ثم علل هذا المحذوف وهو غلبتكم إياهم بأن كيد الشيطان ضعيف، فلا يقاوم نصر الله وتأييده، وشتان بين عزم يرجع إلى إيمان بالله وبما وعد على الجهاد، وعزم يرجع إلى غرور وأماني كاذبة. ودخلت كان في قوله: كان ضعيفا إشعارا بأن هذا الوصف سابق لكيد الشيطان، وأنه لم يزل ضعيفا. وقيل: هي بمعنى صار أي: صار ضعيفا بالإسلام. وقول من زعم: أنها زائدة، ليس بشيء. وقال الحسن: أخبرهم أنهم سيظهرون عليهم، فلذلك كان ضعيفا.
* (لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون) * خرج النسائي في سنته عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة. فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم، فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله هذه الآية. ونحو هذا روي عن قتادة والسدي ومقاتل. وروي عن ابن عباس أيضا: نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمن المتقدم. قال أبو سليمان الدمشقي: كأنه يومىء إلى قصة الذين قالوا: (ابعث لنا مليكا). وقال مجاهد: نزلت في اليهود. وقال الحسن: في
(٣٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 303 304 305 306 307 308 309 310 311 312 313 ... » »»