تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٩٣
ثبوت ذلك في شعرهم لا حجة فيه، لأنه لا يستشهد بكلام المولدين. والظاهر من قوله: رأيت المنافقين أنها من رؤية العين، صدوا مجاهرة وتصريحا، ويحتمل أن يكون من رؤية القلب أي: علمت. ويكون صدهم مكرا وتخابثا ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه. وصدودا: مصدر لصد، وهو هنا متعد بحرف الجر، وقد يتعدى بنفسه نحو: (قصدهم عن السبيل) وقياس صد في المصدر فعل نحو: صده صدا. وحكى ابن عطية: أن صدودا هنا ليس مصدرا، والمصدر عنده صد.
* (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) * قال الزجاج: كيف في موضع نصب تقديره: كيف تراهم، أو في موضع رفع أي: فكيف صنيعهم والمصيبة. قال الزجاج: قتل عمر الذي رد حكم الرسول صلى الله عليه وسلم). وقيل: كل مصيبة تصيب المنافقين في الدنيا والآخرة، ثم عاد الكلام إلى ما سبق يخبر عن فعلهم فقال: ثم جاؤوك يحلفون بالله. وقيل: هي هدم مسجد الضرار، وفيه نزلت الآية، حلفوا دفاعا عن أنفسهم ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة وموافقة الكتاب. وقيل: ترك الاستعانة بهم وما يلحقهم من الذل من قوله: فقل إن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا، والذي قدمت أيديهم ردهم حكم الرسول أو معاصيهم المتقدمة أو نفاقهم واستهزاؤهم ثلاثة أقوال. وقيل في قوله: إلا إحسانا وتوفيقا أي: ما أردنا بطلب دم صاحبنا الذي قتله عمر إلا إحسانا إلينا، وما يوافق الحق في أمرنا. وقيل: ما أردنا بالرفع إلى عمر إلا إحسانا إلى صاحبنا بحكومة العدل، وتوفيقا بينه وبين خصمه. وقيل: جاؤوا يعتذرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) من محاكمتهم إلى غيره ما أردنا في عدولنا عنك إلا إحسانا بالتقريب في الحكم، وتوفيقا بين الخصوم، دون الحمل على الحق. وفي قوله: فكيف إذا أصابتهم مصيبة، وعيد لهم على فعلهم، وأنهم سيندمون عليه عند حلول بأس الله تعالى حين لا ينفعهم الندم، ولا يغني عنهم الاعتذار.
* (أولئك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم فى أنفسهم قولا بليغا) * أي: يعلم ما في قلوبهم من النفاق. والمعنى: يعلمه فيجازيهم عليه، أو يجازيهم على ما أسروه من الكفر، وأظهروه من الحلف الكاذب. وعبر بالعلم عن المجازاة. فأعرض عنهم: أي عن معاتبتهم وشغل البال بهم، وقبول إيمانهم وأعذارهم. وقيل: المعنى بالإعراض معاملتهم بالرفق والإناة، ففي ذلك تأديب لهم، وهو عتابهم. ولا يراد بالإعراض الهجر والقطيعة، فإن قوله: وعظهم يمنع من ذلك. وعظهم: أي خوفهم بعذاب الله وازجرهم، وأنكر عليهم أن يعودوا لمثل ما فعلوا.
والقول البليغ هو الزجر والردع. قال الحسن: هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق. ويتعلق قوله: في أنفسهم بقوله: قل على أحد معنيين، أي: قل لهم خاليا بهم لا يكون معهم أحد من غيرهم مسارا لأن النصح إذا كان في السر كان أنجح، وكان بصدد أن يقبل سريعا. ومعنى بليغا: أي مؤثرا فيهم. أو قل لهم في معنى أنفسهم النجسة المنطوية على النفاق قولا يبلغ منهم ما يزجرهم عن العود إلى ما فعلوا.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): ثم تعلق قوله: في أنفسهم؟ (قلت): بقوله: بليغا أي: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم، مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما، ويستشعرون منه الخوف استشعارا، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق، وأطلع قرنه، وأخبرهن أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين. وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان، وإسراركم الكفر وإضماره، فإن فعلتم ما
(٢٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 288 289 290 291 292 293 294 295 296 297 298 ... » »»