تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٩٨
وبالرفع قرأ الجمهور. وقرأ أبي، وابن أي إسحاق، وابن عامر، وعيسى بن عمر: إلا قليلا بالنصب، ونص النحويون على أن الاختيار في مثل هذا التركيب اتباع ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل أو العطف، باعتبار المذهبين اللذين ذكرناهما.
وقال الزمخشري: وقرئ إلا قليلا بالنصب على أصل الاستثناء، أو على إلا فعلا قليلا انتهى. الأما النصب على أصل الاستثناء فهو الذي وجه الناس عليه هذه القراءة. وأما قوله: على إلا فعلا قليلا فهو ضعيف لمخالفة مفهوم التأويل قراءة الرفع، ولقوله منهم فإنه تعلق على هذا التركيب: لو قلت ما ضربوا زيدا إلا ضربا قليلا منهم لم يحسن أن يكون منهم لا فائدة في ذكره. وضمير النصب في فعلوه عائد على أحد المصدرين المفهومين من قوله: أن اقتلوا أو اخرجوا. وقال أبو عبد الله الرازي: الكناية في قوله ما فعلوه عائد على القتل والخروج معا، وذلك لأن الفعل جنس واحد، وإن اختلفت صورته انتهى. وهو كلام غير نحوي.
* (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) * الضمير في: ولو أنهم مختص بالمنافقين، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا. قال الزمخشري: ما يوعظون به من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وطاعته، والانقياد لما يراه ويحكم به، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، لكان خيرا لهم في عاجلهم وآجلهم، وأشد تثبيتا لإيمانهم، وأبعد من الاضطراب فيه. وقال ابن عطية: ولو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيرا لهم، وتثبيتا معناه يقينا وتصديقا انتهى. وكلاهما شرح ما يوعظون به بخلاف ما يدل عليه الظاهر. لأن الذي يوعظ به ليس هو اتباع الرسول وطاعته، وليس مذلول ما يوعظون به اتعظوا وأنابوا، وقيل: الوعظ هنا بمعنى الأمر أي: ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به فانتهوا عما نهوا عنه. وقال في ري الظمآن: ما يوعظون به أي: ما يوصون ويؤمرون به من الإخلاص والتسليم. وقال الراغب: أخبر أنهم لو قبلوا الموعظة لكان خيرا لهم. وقال أبو عبد الله الرازي: المراد أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا، وسمي هذا التكليف والأمر وعظا، لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والثواب والعقاب، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظا. وقال الماتريدي: وقيل ما يوعظون به من الأمر من القرآن.
وهذه كلها تفاسير تخالف الظاهر، لأن الوعظ هو التذكار بما يحل بمن خالف أمر الله تعالى من العقاب، فلموعظ به هي الجمل الدالة على ذلك، ولا يمكن حمله على هذا الظاهر، لأنهم لم يؤمروا بأن يفعلوا الموعظ به، وإنما عرض لهم شرح ذلك بما خالف الظاهر، لأنهم علقوا به بقوله: ما يوعظون، على طريقة ما يفهم من قولك: وعظتك بكذا، فتكون الباء قد دخلت على الشيء الموعظ به وهي الجملة الدالة على الوعظ. أما إذا كان المعنى على أن الباء للسببية فيحمل إذ ذاك اللفظ على الظاهر، ويصح المعنى، ويكون التقدير: ولو أنهم فعلوا الشيء الذي يوعظون بسببه أي: بسبب تركه. ودل على حذف تركه قوله: ولو أنهم فعلوا. ويبقى لفظ يوعظون على ظاهره، ولا يحتاج إلى ما تأولوه.
لكان خيرا لهم: أي يحصل لهم خير الدارين، فلا يكون أفعل التفضيل. ويحتمل أن يكونه أي: لكان أنفع لهم من غيره: وأشد تثبيتا، لأنه حق، فهو أبقى وأثبت. أو لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها، أو لأن الإنسان يطلب أولا تحصيل الخير، فإذا حصله طلب بقاءه. فقوله: لكان خيرا لهم إشارة إلى الحالة الأولى. وقوله: وأشد تثبيتا إشارة إلى الحالة الثانية. قاله: أبو عبد الله الرازي.
* (وإذا لاتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما) * قال الزمخشري: وإذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: وماذا يكون لهم أيضا بعد التثبيت؟ فقيل: وإذا لو ثبتوا لآتيناهم. لأن إذا جواب وجزاء انتهى. وظاهر قول الزمخشري: لأن إذا جواب وجزاء يفهم منه أنها تكون للمعنيين في حال واحد على كل حال، وهذه مسألة خلاف. ذهب
(٢٩٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 293 294 295 296 297 298 299 300 301 302 303 ... » »»