تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٨٢
يظلم مثقال ذرة) * فإذا كان تعالى لا يظلم مقدار فتيل، فكيف يظلم ما هو أكبر منه؟ وجوزوا أن يعود الضمير في: ولا يظلمون، إلى الذين يزكون أنفسهم، وأن يعود إلى من على المعنى، إذ لو عاد على اللفظ لكان: ولا يظلم وهو أظهر، لأنه أقرب مذكور، ولقطع بل ما بعدها عن ما قبلها. وقيل: يعود على المذكورين من زكى نفسه، ومن يزكيه الله. ولم يذكر ابن عطية غير هذا القول.
وقال الزمخشري: ولا يظلمون أي، الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم، أو من يشاء يثابون ولا ينقصون من ثوابهم ونحوه، فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى انتهى. وقرأ الجمهور: ألم تر بفتح الراء. وقرأ السلمي: بسكونها إجراء للوصل مجرى الوقف. وقيل: هي لغة قوم لا يكتفون بالجزم بحذف لام الفعل، بل يسكنون بعده عين الفعل. وقرأ الجمهور: ولا يظلمون بالياء. وقرأت طائفة: ولا تظلمون بتاء الخطاب، وانتصاب فتيلا. قال ابن عطية: على أنه مفعول ثان، ويعني على تضمين تظلمون معنى ما يتعدى لاثنين، والمعنى: مقدار فتيل، وهو كناية عن أحقر شيء، وإلى أنه الخيط الذي في شق النواة ذهب ابن عباس وعطاء ومجاهد، وإلى أنه ما يخرج من بين الأصابع أو الكفين بالفتل ذهب ابن عباس أيضا. وأبو مالك والسدي، وإلى أنه نفس الشق ذهب الحسن.
* (انظر كيف يفترون على الله الكذب) * هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم). ولما خاطبه أولا بقوله: * (ألم تر) * أي ألا تعجب لهؤلاء الذين يزكون أنفسهم؟ خاطبه ثانيا بالنظر في كيفية افترائهم الكذب على الله، وأتى بصيغة يفترون الدالة على الملابسة والديمومة، ولم يخص الكذب في تزكيتهم أنفسهم، بل عمم في ذلك وفي غيره. وأي ذنب أعظم ممن يفتري على الله الكذب * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * فمن أظلم ممن كذب على الله.
وكيف: سؤال عن حال، وانتصابه على الحال، والعامل فيه يفترون، والجملة في موضع نصب بانظر، لأن انظر معلقة. وقال ابن عطية: وكيف يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون؟ ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله: يفترون انتهى. أما قوله: يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون فصحيح على ما قررناه، وأما قوله ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله يفترون، فهذا لم يذهب إليه أحد، لأن كيف ليست من الأسماء التي يجوز الابتداء بها، وإنما قوله: كيف يفترون على الله الكذب في التركيب نظير كيف يضرب زيد عمرا، ولو كانت مما يجوز الابتداء بها ما جاز أن يكون مبتدأ في هذا التركيب، لأنه ذكر أن الخبر هي الجملة من قوله: يفترون، وليس فيها رابط يربط هذه الجملة بالمبتدأ، وليست الجملة نفس المبتدأ في المعنى، فلا يحتاج إلى رابط. فهذا الذي قال فيه: ويصح، هو فاسد على كل تقدير.
* (وكفى به إثما مبينا) * تقدم الكلام في نظير وكفى به. والضمير في به، عائد على الافتراء، وهو الذي أنكر عليهم. وقيل: على الكذب. وقال الزمخشري: وكفى بزعمهم لأنه قال: (كيف يفترون على الله الكذب) في زعمهم أنهم عند الله أزكياء، وكفى بزعمهم هذا اثما مبينا من بين سائر آثامهم انتهى. فجعل افتراءهم الكذب مخصوصا بالتزكية، وذكرنا نحن أنه في هذا وفي غيره، وانتصاب اثما على التمييز، ومعنى مبينا أي: بينا واضحا لكل أحد.
وقال ابن عطية: وكفى به خبر في ضمنه تعجب وتعجيب من الأمر، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب أن يكتفي لهم بهذا الكذب اثما، ولا يطلب لهم غيره، إذ هو موبق ومهلك انتهى. وفي ما ذكر من أن الباء دخلت لتدل على معنى الأمر بالتعجب نظر، وقد أمعنا الكلام في قوله.
(وكفى بالله وليا) فيطالع هناك. * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) * أجمعوا أنها في اليهود. وسبب نزولها أن كعب بن الأشرف ويحيى بن أخطب وجماعة معهما وردوا مكة يحالفون قريشا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا. وقال أبو سفيان: أنحن
(٢٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 277 278 279 280 281 282 283 284 285 286 287 ... » »»