تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٥٨
ويصنعون أحقاء بكل ملامة. وقدره ابن عطية: معذبون أو مجازون ونحوه. وقدره أبو البقاء: أولئك قرناؤهم الشيطان، وقدره أيضا: مبغضون. ويحتمل أن يكون التقدير: كافرون * (وأعتدنا للكافرين) * فإن كان ما قبل الخبر مما يقتضي كفرا حقيقة كتفسيرهم البخل بأنه بخل بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وبإظهار نبوته. والأمر بالبخل لأتباعهم أي: بكتمان ذلك، وكتمهم ما تضمنته التوراة من نبوته وشريعته، كان قوله: وأعتدنا للكافرين، حقيقة فإن كان ما قبل الخبر كفر نعمة كتفسيرهم: أنها في المؤمنين، كان قوله: وأعتدنا للكافرين كفر نعمة ولكل من هذه التقادير مناسب من الآية، والآية على هذه التقادير. وقول الزجاج: في الكفار، ويبين ذلك سبب النزول المتقدم. وتقدم تفسير البخل والأمر به، والكتمان على هذا الوجه في سبب النزول. وأعتدنا للكافرين: أي أعددنا وهيأنا. والعتيد: الحاضر المهيأ والمهين الذي فيه خزي وذل، وهو أنكى وأشد على المعذب.
* (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر) * تقدم تفسير مثل هذه الآية في قوله: * (كالذى ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر) * وهنا: ولا باليوم الآخر، وهناك: واليوم الآخر. قال السدي، والزجاج وأبو سليمان الدمشقي والجمهور: هم المنافقون نزلت فيهم، وإنفاقهم هو إعطاؤهم الزكاة، وإخراجهم المال في السفر للغزو رئاء ودفعا عن أنفسهم، لا إيمانا ولا حبا في الدين. وقال ابن عباس: ومقاتل، ومجاهد: نزلت في اليهود. وضعفه الطبري من حيث أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر. ووجه ابن عطية هذا القول بأنهم لم يؤمنوا على ما ينبغي جعل إيمانهم كلا إيمان من حيث لا ينفعهم. وقيل: هم مشركو مكة، لأنهم كانوا ينكرون البعث. وإنفاق اليهود هو ما أعانوا به قريشا في غزوة أحد وغزوة الخندق، وإنفاق مشركي مكة هو ما كان في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم) وطلبهم الانتصار.
وفي إعراب والذين ينفقون وجوه: أحدها: أنه مبتدأ محذوف الخبر، ويقدر: معذبون، أو قرينهم الشيطان، ويكون العطف من عطف الجمل. والثاني: أن يكون معطوفا على الكافرين، فيكون مجرورا قاله: الطبري. والثالث: أن يكون معطوفا على الذين يبخلون، فيكون إعرابه كإعراب الذين يبخلون. والعطف في هذين الوجهين من عطف المفردات. ورئاء مصدر راء، أو انتصابه على أنه مفعول من أجله، وفيه شروطه فلا ينبغي أن يعدل عنه. وقيل: هو مصدر في موضع الحال قاله: ابن عطية، ولم يذكر غيره. وظاهر قوله: ولا يؤمنون أنه عطف على صلة الذين، فيكون صلة. ولا يضر الفصل بين إبعاض الصلة بمعمول للصلة، إذ انتصاب رئاء على وجهيه بينفقون. وجوزوا أن يكون: ولا يؤمنون في موضع الحال، فتكون الواو واو الحال أي: غير مؤمنين، والعامل فيها ينفقون أيضا. وحكى المهدوي: أنه يجوز انتصاب رئاء على الحال من نفس الموصول لا من الضمير في ينفقون، فعلى هذا لا يجوز أن يكون: ولا يؤمنون معطوفا على الصلة، ولا حالا من ضمير ينفقون، لما يلزم من الفصل بين أبعاض الصلة، أو بين معمول الصلة بأجنبي وهو رئاء المنصوب على الحال من نفس الموصول، بل يكون قوله: ولا يؤمنون مستأنف. وهذا وجه متكلف. وتعلق رئاء بقوله: ينفقون واضح، إما على المفعول له، أو الحال، فلا ينبغي أن يعدل عنه. وتكرار لا وحرف الجر في قوله: ولا باليوم الآخر مفيد لانتفاء كل واحد من الإيمان بالله، ومن الإيمان باليوم الآخر. لأنك إذا قلت: لا أضرب زيدا وعمرا، احتمل أن لا تجمع بين ضربيهما. ولذلك يجوز أن تقول بعد ذلك: بل أحدهما. واحتمل نفي الضرب عن كل واحد منهما علي سبيل الجمع، وعلى سبيل الإفراد. فإذا قلت: لا أضرب زيدا ولا عمرا، تعين هذا الاحتمال الثاني الذي كان دون تكرار.
* (ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا) * لما ذكر تعالى من اتصف بالبخل والأمر به، وكتمان فضل الله تعالى، والإنفاق رئاء، وانتفاء إيمانه بالله وباليوم الآخر، ذكر أن هذه من نتائج مقارنة الشيطان ومخالطته وملازمته للمتصف بذلك، لأنها شر محض،
(٢٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 253 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 ... » »»