تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٥٣
قدرتهن من الميل والمحبة، فإن ذلك إلى الله. وقيل: يحتمل أن يكون تبعوا من البغي وهو الظلم، والمعنى: فلا تبغوا عليهن من طريق من الطرق. وانتصاب سبيلا على هذا هو على إسقاط الخافض. وقيل: المعنى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا من سبل البغي لهن والإضرار بهن توصيلا بذلك إلى نشوزهن أي: إذا كانت طائعة فلا يفعل معها ما يؤدي إلى نشوزها. ولفظ عليهن يؤذن بهذا المعنى. وسبيلا نكرة في سياق النفي، فيعم النهي عن الأذى بقول أو فعل.
* (إن الله كان عليا كبيرا) * لما كان في تأديبهن بما أمر تعالى به الزوج اعتلاء للزوج على المرأة، ختم تعالى الآية بصفة العلو والكبر، لينبه العبد على أن المتصف بذلك حقيقة هو الله تعالى. وإنما أذن لكم فيما أذن على سبيل التأديب لهن، فلا تستعلوا عليهن، ولا تتكبروا عليهن، فإن ذلك ليس مشروعا لكم. وفي هذا وعظ عظيم للأزواج، وإنذار أن قدرة الله عليكم فوق قدرتكم عليهن. وفي حديث أبي مسعود وقد ضرب غلاما له اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد. أو يكون المعنى: إنكم تعصونه تعالى على علو شأنه وكبرياء سلطانه، ثم يتوب عليكم، فيحق لكم أن تعفوا عنهن إذا أطعنكم.
* (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * الخلاف في الخوف هنا مثله في: واللاتي تخافون. ولما كان حال المرأة مع زوجها إما الطواعية، وإما النشوز. وكان النشوز إما تعقبه الطواعية، وإما النشوز المستمر، فإن أعقبته الطواعية فتعود كالطائعة أولا. وإن استمر النشوز واشتد، بعث الحكمان.
والشقاق: المشاقة. والأصل شقاقا بينهما، فاتسع وأضيف. والمعنى على الظرف كما تقول: يعجبني سير الليلة المقمرة. أو يكون استعمل اسما وزال معنى الظرف، أو أجرى البين هنا مجرى حالهما وعشرتهما وصحبتهما.
والخطاب في: وإن خفتم، وفي فابعثوا، للحكام، ومن يتولى الفصل بين الناس. وقيل: للأولياء لأنهم الذين يلون أمر الناس في العقود والفسوخ، ولهم نصب الحكمين. وقيل: خطاب للمؤمنين. وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للأزواج، إذ لو كان خطابا للأزواج لقال: وإن خافا شقاق بينهما فليبعثا، أو لقال: فإن خفتم شقاق بينكم، لكنه انتقال من خطاب الأزواج إلى خطاب من له الحكم والفصل بين الناس، وإلى أنه خطاب للأزواج ذهب الحسن والسدي. والضمير في بينهما عائد على الزوجين، ولم يجرد ذكرهما، لكن جرى ما يدل عليهما من ذكر الرجال والنساء.
والحكم: هو من يصلح للحكومة بين الناس والإصلاح. ولم تتعرض الآية لماذا يحكمان فيه، وإنما كان من الأهل، لأنه أعرف بباطن الحال، وتسكن إليه النفس، ويطلع كل منهما حكمه على ما في ضميره من حب وبغض وإرادة صحبة وفرقة. قال جماعة من العلماء: لا بد أن يكونا عارفين بأحوال الزوجين، عدلين، حسني السياسة والنظر في حصول المصلحة، عالمين بحكم الله في الواقعة التي حكما فيها. فإن لم يكن من أهلهما من يصلح لذلك أرسل من غيرهما عدلين عالمين، وذلك إذا أشكل أمرهما ورغبا فيمن يفصل بينهما. وقال بعض العلماء: إنما هذا الشرط في الحكمين اللذين يبعثهما الحاكم. وأما الحكمان اللذان يبعثهما الزوجان فلا يشترط فيهما إلا أن يكونا بالغين عاقلين مسلمين، من أهل العفاف والستر، يغلب على الظن نصحهما. واختلفوا في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان، فذهب الجمهور إلى أنهما ينظران في كل شيء، ويحملان على الظالم، ويمضيان ما رأيا من بقاء أو فراق، وبه قال: مالك، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور. وهو مروي عن: علي، وعثمان، وابن عباس، والشعبي، والنخعي، ومجاهد، وأبي سلمة، وطاووس. قال مالك: إذا رأيا التفريق فرقا، سواء أوافق مذهب قاضي البلد أو خالفه، وكلاه أم لا، والفراق أم لا، والفراق في ذلك طلاق بائن، وقالت طائفة: لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرحا بتقديمهما عليه، فالحكمان وكيلان: أحدهما للزوج، والآخر للزوجة، ولا تقع الفرقة إلا برضا الزوجين، وهو مذهب أبي حنيفة، وعن الشافعي القولان. وقال الحسن وغيره: ينظر الحكمان في الإصلاح وفي الأخذ والإعطاء، إلا في الفرقة فإنها ليست إليهما. وأما ما يقول الحكمان، فقال جماعة: يقول حكم الزوج له أخبرني ما في خاطرك، فإن قال: لا حاجة لي فيها، خذ لي ما استطعت وفرق بيننا، علم أن النشوز من قبله. وإن قال: أهواها ورضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيننا، علم أنه
(٢٥٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 248 249 250 251 252 253 254 255 256 257 258 ... » »»