تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٥٤
ليس بناشز ويقول الحكم من جهتها لها كذلك، فإذا ظهر لهما أن النشوز من جهته وعظاه، وزجراه، ونهياه.
* (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) * الضمير في يريدا عائد على الحكمين قاله: ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما. وفي بينهما عائد على الزوجين، أي: قصدا إصلاح ذات البين، وصحت نيتهما، ونصحا لوجه الله، وفق الله بين الزوجين وألف بينهما، وألقى في نفوسهما المودة. وقيل: الضميران معا عائدان على الحكمين أي: إن قصدا إصلاح ذات البين، وفق الله بينهما فيجتمعان على كلمة واحدة، ويتساعدان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض. وقيل: الضميران عائدان على الزوجين أي: إن يرد الزوجان إصلاحا بينهما، وزوال شقاق، يزل الله ذلك ويؤلف بينهما. وقيل: يكون في يريدا عائدا على الزوجين، وفي بينهما عائدا على الحكمين: أي: إن يرد الزوجان إصلاحا وفق الله بين الحكمين فاجتمعا على كلمة واحدة، وأصلحا، ونصحا.
وظاهر الآية أنه لا بد من إرسال الحكمين وبه قال الجمهور.
وروي عن مالك: أنه يجري إرسال واحد، ولم تتعرض الآية لعدالة الحكمين، فلو كانا غير عدلين فقال عبد الملك: حكمهما منقوض. وقال ابن العربي: الصحيح نفوذه. وأجمع أهل الحل والعقد: على أن الحكمين يجوز تحكيمهما. وذهبت الخوارج: إلى أن التحكيم ليس بجائز، ولو فرق الحكمان بين الزوجين خلعا برضا الزوجين. فهل يصح من غير أمر سلطان؟ ذهب الحسن وابن سيرين: إلى أنه لا يجوز الصلح إلا عند السلطان. وذهب عمر وعثمان وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين: إلى أنه يصح من غير أمر السلطان منهم: مالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي.
* (إن الله كان عليما خبيرا) * يعلم ما يقصد الحكمان، وكيف يوفقا بين المختلفين، ويخبر خفايا ما ينطقان به في أمر الزوجين.
* (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين) * مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر أن الرجال قوامون على النساء بتفضيل الله إياهم عليهن، وبإنفاق أموالهم، ودل بمفهوم اللقب أنه لا يكون قواما على غيرهن، أوضح أنه مع كونه قواما على النساء هو أيضا مأمور بالإحسان إلى الوالدين، وإلى من عطفه على الوالدين. فجاءت حثا على الإحسان، واستطرادا لمكارم الأخلاق. وأن المؤمن لا يكتفي من التكاليف الإحسانية بما يتعلق بزوجته فقط، بل عليه غيرها من بر الوالدين وغيرهم. وافتتح التوصل إلى ذلك بالأمر بإفراد الله تعالى بالعبادة، إذ هي مبدأ الخير الذي تترتب الأعمال الصالحة عليه. ونظير: * (وإذا * أخذنا ميثاق بنى إسرءيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا) * وتقدم شرح قوله: * (وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين) * إلا أن هنا وبذي، وهناك وذي، وإعادة الباء تدل على التوكيد والمبالغة، فبولغ في هذه الآية لأنها في حق هذه الأمة، ولم يبالغ في حق تلك، لأنها في حق بني إسرائيل. والاعتناء بهذه الأمة أكثر من الاعتناء بغيرها، إذ هي خير أمة أخرجت للناس. وقرأ ابن أبي عبلة: وبالوالدين إحسان بالرفع، وهومبتدأ أو خبر فيه ما في المنصوب من معنى الأمر، وإن كان جملة خبرية نحو قوله:
فصبر جميل فكلانا مبتلي * (والجار ذى القربى) * قال ابن عباس: ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل في آخرين: هو الجار القريب النسب، والجار الجنب هو الجار الأجنبي، الذي لا قرابة بينك وبينه. وقال بلعاء بن قيس:
* لا يجتوينا مجاور أبدا * ذو رحم أو مجاور جنب * وقال نوف الشامي: هو الجار المسلم.
* (والجار الجنب) * هو: الجار اليهودي، والنصراني. فهي عنده قرابة الإسلام، وأجنبية الكفر. وقالت فرقة، هو الجار القريب المسكن منك، والجنب هو البعيد المسكن منك. كأنه انتزع
(٢٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 249 250 251 252 253 254 255 256 257 258 259 ... » »»