تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٤٣
أجله، وجوزوا أن يكونا مصدرين في موضع الحال، أي: معتدين وظالمين. وقرئ عدوانا بالكسر. وقرأ الجمهور: نصليه بضم النون. وقرأ النخعي والأعمش: بفتحها من صلاة، ومنه شاة مصلية. وقرئ أيضا: نصليه مشددا. وقرئ: يصليه بالياء، والظاهر أن الفاعل هو ضمير يعود على الله أي: فسوف يصليه هو أي: الله تعالى. وأجاز الزمخشري أن يعود الضمير على ذلك قال: لكونه سببا للمصلي، وفيه بعد. ومدلول نارا مطلق، والمراد والله أعلم تقييدها بوصف الشدة، أو ما يناسب هذا الجرم العظيم من أكل المال بالباطل وقتل الأنفس.
* (وكان ذالك على الله يسيرا) * ذلك إشارة إلى إصلائه النار، ويسره عليه تعالى سهولته، لأن حجته بالغة وحكمه لا معقب له. وقال الزمخشري: لأن الحكمة تدعو إليه، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه، وفيه دسيسة الاعتزال.
* (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) * مناسبة هذه الآية ظاهره، لأنه تعالى لما ذكر الوعيد على فعل بعض الكبائر، ذكر الوعد على اجتناب الكبائر. والظاهر أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وسيئات، وهي التي عبر عنها أكثر العلماء بالصغائر. وقد اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، فمن الصغائر النظرة واللمسة والقبلة ونحو ذلك مما يقع عليه اسم التحريم، وتكفر الصغائر باجتناب الكبائر. وذهب جماعة من الأصوليين منهم الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني، وأبو المعالي، وأبو نصر عبد الرحيم القشيري: إلى أن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا، ولا ذنب يغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذنب كبيرة وصاحبه ومرتكبه في المشيئة غير الكفر. وحملوا قوله تعالى: كبائر ما تنهون عنه على أنواع الشرك والكفر قالوا: ويؤيده قراءة كبير على التوحيد، وقوله صلى الله عليه وسلم): (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة) فقال له رجل: يا رسول الله وإن كان يسيرا؟ قال: (وإن كان قضيبا من أراك) فقد جاء الوعيد على اليسير، كما جا على الكثير. وروي عن ابن عباس مثل قول هؤلاء قال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة.
والذين ذهبوا إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، وأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر على ما اقتضاه ظاهر الآية وعضده الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) في صحيح مسلم من قوله: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله) وفي صحيح مسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).
واختلفوا في الكبائر فقال ابن مسعود: هي ثلاث، القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله. وروي عنه أيضا أنها أربع: فزاد الإشراك بالله. وقال علي: هي سبع: الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة. وقال عبيد بن عمير: الكبائر سبع كقول علي في كل واحدة منها آية في كتاب الله، وجعل الآية في التعرب: * (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى) * الآية وفي البخاري: * (اتقوا * السبع) * فذكر هذه إلا التعرب، فجاء بدله السحر. وقد ذهب قوم إلى أن هذه الكبائر هي هذه السبع التي ثبتت في البخاري. وقال ابن عمر: فذكر هذه إلا السحر، وزاد الإلحاد في المسجد الحرام. والذي يستسخر
(٢٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 238 239 240 241 242 243 244 245 246 247 248 ... » »»