تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٦٥
الودادة وانتفاء الكتمان، ويكون انتفاء الكتمان في بعض مواقف القيامة. ويحتمل أن يكون مفعول يود محذوفا كما قررناه، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف كما تقدم. والجملة من قوله: ولا يكتمون معطوفة على لو ومقتضيتها، ويكون تعالى قد أخبر بثلاث جمل: جملة الودادة، والجملة التعليقية من لو وجوابها، وجملة انتفاء الكتمان.
* (حديثا يأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلواة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) * روي أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل التحريم، وحانت صلاة، فتقدم أحدهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت. وقيل: نزلت بسبب قول ثانيا: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، وكانوا يتحامونها أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر، إلى أن سأل عمر ثالثا فنزل تحريمها مطلقا. وهذه الآية محكمة عند الجمهور. وذهب ابن عباس إلى أنها منسوخة بآية المائدة. وأعجب من هذا قول عكرمة: أن قوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى منسوخ بقوله: * (يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم) * الآية أي أبيح لهم أن يؤخروا الصلاة حتى يزول السكر، ثم نسخ ذلك فأمروا بالصلاة على كل حال، ثم نسخ شرب الخمر بقوله: * (فاجتنبوه) * ولم ينزل الله هذه الآية في إباحة الخمر فلا تكون منسوخة، ولا أباح بعد إنزالها مجامعة الصلاة مع السكر. ووجه قول ابن عباس: أن مفهوم الخطاب يدل على جواز السكر، وإنما حرم قربان الصلاة في تلك الحال، فنسخ ما فهم من جواز الشرب والسكر بتحريم الخمر.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي: أنه لما أمر تعالى بعبادة الله والإخلاص فيها، وأمر ببر الوالدين ومكارم الأخلاق، وذم البخل واستطر منه إلى شيء من أحوال القيامة، وكان قد وقع من بعض المسلمين تخليط في الصلاة التي هي رأس العبادة بسبب شرب الخمر، ناسب أن تخلص الصلاة من شوائب الكدر التي يوقعها على غير وجهها، فأمر تعالى بإتيانها على وجهها دون ما يفسدها، ليجمع لهم بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم، وبين الخلق والخطاب بقوله: يا أيها الذين آمنوا للصاحين، لأن السكران إذا عدم التمييز لسكره ليس بمخاطب، لكنه مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه، وبتكفيره ما أضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق على ما ذهب إليه بعض الناس.
وبالغ تعالى في النهي عن أن يصلي المؤمن وهو سكران بقوله: * (لا تقربوا الصلواة * لان) * * (ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش) * * (ولا تقربوا مال اليتيم) * والمعنى: لا تغشوا الصلاة. وقيل: هو على حذف مضاف أي: لا تقربوا مواضع الصلاة لقوله: ولا جنبا إلا عابري سبيل على أحد التأويلين في عابري سبيل، وسيأتي إن شاء الله. ومواضع الصلاة هي المساجد لقوله صلى الله عليه وسلم): (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم).
والجمهور على أن المراد: وأنتم سكارى من الخمر. وقال الضحاك: المراد السكر من النوم، لقوله صلى الله عليه وسلم): (إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه) وقال عبيدة السلماني: المراد بقوله وأنتم سكارى إذا كنتم حاقنين، لقوله عليه السلام: (لا يصلين أحدكم وهو حاقن). وفي رواية: (وهو ضام فخذيه) واستضعف قول الضحاك
(٢٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 260 261 262 263 264 265 266 267 268 269 270 ... » »»