تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٤٦
فجعل للرجال الجهاد والإنفاق في المعيشة، وحمل التكاليف الشاقة كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك. وجعل للنساء الحمل ومشقته، وحسن التبعل، وحفظ غيب الزوج، وخدمة البيوت. وقيل: المعنى مما اكتسب من نعيم الدنيا، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له. وهذه الأقوال الثلاثة هي بالنسبة لأحوال الدنيا. وقالت فرقة: المعنى نصيب من الأجر والحسنات. وقال الزمخشري: جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف الله من حاله الموجبة للبسط والقبض كسبا له انتهى. وفي قوله: عرف الله نظره، فإنه لا يقال في الله عارف، نص الأئمة على ذلك، لأن المعرفة في اللغة تستدعي قبلها جهلا بالمعروف، وذلك بخلاف العلم، فإنه لا يستدعي جهلا قبله. وتسمية ما قسم الله كسبا له فيه نظر أيضا، فإن الاكتساب يقتضي الاعتمال والتطلب كما قلناه، إلا إن قلنا أن أكثر ما قسم له يستدعي اكتسابا من الشخص، فأطلق الاكتساب على جميع ما قسم له تغليبا للأكثر. وفي تعليق النصيب بالاكتساب حض على العمل، وتنبيه على كسب الخير.
* (واسألوا الله من فضله) * أي من زيادة إحسانه ونعمه. لما نهاهم عن تمني ما فضل به بعضهم، أمرهم بأن يعتمدوا في المزيد عليه تبارك وتعالى. وظاهر قوله: من فضله، العموم فيما يتعلق بأحوال الدنيا وأحوال الآخرة، لأن ظاهر قوله: * (ولا تتمنوا) * ما فضل العموم أيضا، وهو قول الجمهور. وقال ابن جبير وليث بن أبي سليم: هذا في العبادات والدين وأعمال البر، وليس في فضل الدنيا. وفي قوله: من فضله، دلالة على عدم تعيين المطلوب، لكن يطلب من فضل الله ما يكون سببا لإصلاح دينه ودنياه على سبيل الإطلاق، كما قال تعالى: * (ومنهم من يقول ربنا ءاتنا فى الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة) *.
وقرأ ابن كثير والكسائي: وسلوا بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على السين، وذلك إذا كان أمرا للمخاطب، وقبل السين واو أو فاء نحو: * (* فسل الذين يقرؤن) * و * (فاسألوا أهل الذكر) *. وقرأ باقي السبعة بالهمز. قال ابن عطية: إلا في قوله: * (ياأيها الذين ءامنوا) * فإنهم أجمعوا على الهمز فيه انتهى. وهذا الذي ذكره ابن عطية وهم، بل نصوص المقرئين في كتبهم على أن واسألوا ما أنفقتم من جملة المختلف فيه. بين ابن كثير والكسائي، وبين الجماعة، ونص على ذلك بلفظه ابن شيطا في كتاب التذكار، ولعل الوهم وقع له في ذلك من قول ابن مجاهد في كتاب السبعة له، ولم يختلفوا في قوله: * (ياأيها الذين ءامنوا) * أنه مهموز لأنه لغائب انتهى. وروى الكسائي عن إسماعيل بن جعفر عن أبي جعفر وشيبة: أنهما لم يهمزا وسل ولا فسل، مثل قراءة الكسائي، وحذف الهمزة في سل لغة الحجاز، وإثباتها لغة لبعض تميم. وروى اليزيدي عن أبي عمرو: أن لغة قريش سل. فإذا أدخلوا الواو والفاء همزوا، وسأل يقتضي مفعولين، والثاني لقوله: واسألوا الله هو قوله: من فضله. كما تقول: أطعمت زيدا من اللحم، وكسوته من الحرير، والتقدير: شيئا من فضله، وشيئا من اللحم، وشيئا من الحرير. وقال بعض النحويين: من زائدة، والتقدير: وسلوا الله فضله، وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش. وقال ابن عطية: ويحسن عندي أن يقدر المفعول أمانيكم إذ ما تقدم يحسن هذا المعنى.
* (إن الله كان بكل شىء عليما) * أي علمه محيط بجميع الأشياء فهو عالم بما فضل به بعضكم على بعض وما يصلح لكل منكم من توسيع أو تقتير فإياكم والاعتراض بتمن أو غيره وهو عالم أيضا بسؤالكم من فضله فيستجيب دعاءكم * (ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والاقربون والذين عقدت أيمانكم فئاتوهم نصيبهم) * لما نهى عن التمني المذكور، وأمر بسؤال الله من فضله، أخبر تعالى بشيء من أحوال الميراث، وأن في شرعه ذلك مصلحة عظيمة من تحصيل مال للوارث لم يسع فيه، ولم يتعن بطلبه، فرب ساع لقاعد. وكل لا تستعمل إلا مضافة، إما الظاهر، وإما المقدر، واختلفوا في تعيين المقدر هنا،
(٢٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 241 242 243 244 245 246 247 248 249 250 251 ... » »»