تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٣٣
الإسلام. والمعنى: أن الأمة المسلمة عليها نصف حد الحرة المسلمة. وقد ضعف هذا القول، بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدمت في قوله: * (من فتياتكم المؤمنات) * فكيف يقال في المؤمنات: فإذا أسلمن؟ قاله: إسماعيل القاضي. وقال ابن عطية: ذلك غير لازم، لأنه جائز أن يقطع في الكلام ويزيد، فإذا كن على هذه الصفة المتقدمة من الإيمان فإن أتين فعليهن، وذلك سائغ صحيح انتهى. وليس كلامه بظاهر، لأن أسلمن فعل دخلت عليه أداة الشرط، فهو مستقبل مفروض التجدد والحدوث فيما يستقبل، فلا يمكن أن يعبر به عن الإسلام، لأن الإسلام متقدم سابق لهن. ثم إنه شرط جا بعد قوله تعالى: * (فانكحوهن) * فكأنه قيل: فإذا أحصن بالنكاح، فإن أتين.
ومن فسر الإحصان هنا بالإسلام جعله شرطا في وجوب الحد، فلو زنت الكافر لم تحد، وهذا قول: الشعبي، والزهري، وغيرهما، وقد روي عن الشافعي. وقالت فرقة: هو التزويج، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها قاله: ابن عباس، والحسن، وابن جبير، وقتادة. وقالت فرقة: هو التزوج. وتحد الأمة المسلمة بالسنة تزوجت أو لم تتزوج، بالحديث الثابت في صحيح البخاري ومسلم، وهو أنه قيل: يا رسول الله، الأمة، إذا زنت ولم تحصن، فأوجب عليها الحد). قال الزهري: فالمتزوجة محدودة بالقرآن، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث. وهذا السؤال من الصحابة يقتضي أنهم فهموا أن معنى: فإذا أحصن، تزوجن. وجواب الرسول: يقتضي تقرير ذلك، ولا مفهوم لشرط الإحسان الذي هو التزوج، لأنه وجب عليه الحد بالسنة وإن لم تحصن، وإنما نبه على حالة الإحصان الذي هو التزوج، لئلا يتوهم أن حدها إذا تزوجت كخد الحرة إذا أحصنت وهو الرجم، فزال هذا التوهم بالإخبار: أنه ليس عليها إلا نصف الحد الذي يجب على الحرائر اللواتي لم يحصن بالتزويج، وهو الجلد خمسين.
والمراد بالعذاب الجلد كقوله تعالى: * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) * ولا يمكن أن يراد الرجم، لأن الرجم لا يتنصف. والمراد بفاحشة هنا: الزنا، بدليل إلزام الحد. والظاهر أنه يجب نصف ما على الحرة من العذاب، والحرة عذابها جلد مائة وتغريب عام، فحد الأمة خمسون وتغريب ستة أشهر. وإلى هذا ذهب جماعة من التابعين، واختاره الطبري. وذهب ابن عباس والجمهور: إلى أنه ليس عليها إلا جلد خمسين فقط، ولا تغرب. فإن كانت الألف واللام في العذاب لعهد العذاب المذكور في القرآن فهو الجلد فقط، وإن كانت للعهد في العذاب المستقر في الشرع على الحرة كان الجلد والتغريب. والظاهر وجوب الحد من قوله: فعليهن، فلا يجوز العفو عن الأمة من السيد إذا زنت، وهو مذهب الجمهور. وذهب الحسن إلى أن للسيد أن يعفو، ولم تتعرض الآية لمن يقيم الحد عليها.
قال ابن شهاب: مضت السنة أن يحد الأمة والعبد في الزنا أهلوهم، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان، فليس لأحد أن يفتات عليه. وقال ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم. وأقام الحد على عبيدهم جماعة من الصحابة منهم: ابن عمر، وأنس. وجاءت بذلك ظواهر الأحاديث كقوله: * (إذا) * وبه قال الثوري والأوزاعي. وقال مالك والليث: يحد السيد إلا في القطع، فلا يقطع إلا الإمام. وقال أبو حنيفة: لا يقيم الحدود على العبيد والإماء إلا السلطان دون الموالي وظاهر الآية يدل على وجوب الحد عليها في حال كونها أمة، فلو عتقت قبل أن يقام عليها الحد أقيم عليها حد أمة، وهذا مجمع عليه. والمحصنات هنا الإبكار
(٢٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 228 229 230 231 232 233 234 235 236 237 238 ... » »»