تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٣٦
كذلك أيضا في جميع الشرائع، وإن كانت مختلفة في نفسها، متفقة في باب المصالح انتهى. وتقدم معنى هذه الأقوال التي ذكرها. وقوله: أي يريد أن يبين، موافق لقول الزمخشري.
* (ويتوب عليكم) * أي يردكم من عصيانه إلى طاعته، ويوفقكم لها.
* (والله عليم حكيم) * عليم بأحوالكم وبما تقدم من الشرائع والمصالح، حكيم يصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان.
* (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما) * تعلق الإرادة أولا بالتوبة على سبيل العلية على ما اخترناه من الأقوال، لأن قوله: ويتوب عليكم، معطوف على العلة، فهو علة. ونعلقها هنا على سبيل المفعولية، فقد اختلف التعلقان فلا تكرار. وكما أراد سبب التوبة فقد أراد التوبة عليهم، إذ قد يصح إرادة السبب دون الفعل. ومن ذهب إلى أن متعلق الإرادة في الموضعين واحد كان قوله: والله يريد أن يتوب عليكم تكرارا لقوله: ويتوب عليكم، لأن قوله: ويتوب عليكم، معطوف على مفعول، فهو مفعول به. قال ابن عطية: وتكرار إرادة الله للتوبة على عباده تقوية للأخبار الأول، وليس المقصد في الآية إلا الأخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات، فقدمت إرادة الله توطئة مظهرة لفساد متبعي الشهوات. انتهى كلامه. فاختار مذهب الكوفيين في أن جعلوا قوله: ليبين، في معنى أن يبين، فيكون مفعولا ليريد، وعطف عليه: ويتوب، فهو مفعول مثله، ولذلك قال: وتكرار إرادة الله التوبة على عباده إلى آخر كلامه. وكان قد حكى قول الكوفيين وقال: وهذا ضعيف، فرجع أخيرا إلى ما ضعفه، وكان قد قدم أن مذهب سيبويه: أن مفعول: يريد، محذوف، والتقدير: يريد الله هذا التبيين.
والشهوات جمع شهوة، وهي ما يغلب على النفس محبته وهواه. ولما كانت التكاليف الشرعية فيها قمع النفس وردها عن مشتهياتها، كان اتباع شهواتها سببا لكل مذمة، وعبر عن الكافر والفاسق بمتبع الشهوات كما قال تعالى: * (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلواة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) * واتباع الشهوة في كل حال مذموم، لأن ذلك ائتمار لها من حيث ما دعته الشهوة إليه. أما إذا كان الاتباع من حيث العقل أو الشرع فذلك هو اتباع لهما لا للشهوة. ومتبعو الشهوات هنا هم الزناة قاله: مجاهد. أو اليهود والنصارى قاله: السدي. أو اليهود خاصة لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب، أو المجو كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب، ونكاح بنات الأخ، وبنات الأخت، فلما حرمهن الله قالوا: فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة، والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت، أو متبعو كل شهوة قاله: ابن زيد، ورجحه الطبري. وظاهره العموم والميل، وإن كان مطلقا فالمراد هنا الميل عن الحق، وهو الجور والخروج عن قصد السبيل. ولذلك قابل إرادة الله بإرادة متبعي الشهوات، وشتان ما بين الإرادتين. وأكد فعل الميل بالمصدر على سبيل المبالغة، لم يكتف حتى وصفه بالعظم. وذلك أن الميول قد تختلف، فقد يترك الإنسان فعل الخير لعارض شغل أو لكسل أو لفسق يستلذ به، أو لضلالة بأن يسبق له سوء اعتقاد. ويتفاوت رتب معالجة هذه الأشياء، فبعضها أسهل من بعض، فوصف مثل هؤلاء بالعظم، إذ هو أبعد الميول معالجة وهو الكفر. كما قال تعالى: * (ودوا لو تكفرون) * * (ويريدون أن تضلوا السبيل) *.
وقرأ الجمهور: أن تميلوا بتاء الخطاب. وقرئ: بالياء على الغيبة. فالضمير في يميلوا يعود على الذين يتبعون الشهوات. وقرأ الجمهور: ميلا بسكون الياء. وقرأ الحسن: بفتحها، وجاءت الجملة الأولى اسمية، والثانية فعلية لإظهار تأكيد الجملة الأولى، لأنها أدل على الثبوت. ولتكرير اسم الله تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار. وأما الجملة الثانية فجاءت فعلية مشعرة بالتجدد، لأن أرادتهم تتجدد في كل وقت. والواو في قوله: ويريد للعطف على ما قررناه. وأجاز الراغب أن تكون الواو للحال لا للعطف، قال: تنبيها على أنه يريد التوبة عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا، فخالف بين الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجمل الأولى، وتأخيره في
(٢٣٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 231 232 233 234 235 236 237 238 239 240 241 ... » »»