تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٥٠
والإصلاح. وكذلك تكرر هذا الاسم في قصة آدم ونوح وغيرهما. وفي تكرار ربنا ربنا دلالة على جواز الإلحاح في المسألة، واعتماد كثرة الطلب من الله تعالى. وفي الحديث: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام) وقال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم. وهذه مسألة أجمع عليها علماء الأمصار خلافا لبعض الصوفية، إذا جاز ذلك فيما يتعلق بالآخرة لا بالدنيا، ولبعض المتصوفة أيضا إذ قال الله تعالى: * (من رأسه قضى الامر) * واجتنب النهي وارتفع عنه كلف طلباته ودعائه. خرج أبو نصر الوايلي السجستاني الحافظ في كتاب الإبانة عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم) كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة) يعني: أن في خلق السماوات والأرض. قال العلماء: ويستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويستفتح قيامه بقراءة هذا العشر آيات اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم)، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما، ثم يصلي ما كتب له، فيجمع بين التفكر والعمل * (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) * روي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله قد ذكر الله الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك، فنزلت، ونزل آيات في معناها فيها ذكر النساء. ومعنى استجاب: أجاب، ويعدى بنفسه وباللام. وتقدم الكلام في * (فليستجيبوا لى) * ونقل تاج القراء أن أجاب عام، واستجاب خاص في حصول المطلوب. وقرأ الجمهور: إني على إسقاط الباء، أي: بأني. وقرأ أبي بأني بالباء. وقرأ عيسى بن عمر: إني بكسر الهمزة، فيكون على إضمار القول على قول البصريين، أو على الحكاية بقوله: فاستجاب. لأن فيه معنى القول على طريقة الكوفيين. وقرأ الجمهور: أضيع من أضاع. وقرأ بعضهم: أضيع بالتشديد من ضيع، والهمزة والتشديد فيه للنقل كما قال الشاعر:
* كمرضعة أولاد أخرى وضيعت * بنى بطنها هذا الضلال عن القصد * ومعنى ذلك: لا أترك جزاء عامل منكم. ومنكم في موضع الصفة، أي: كائن منكم. وقوله: من ذكر أو أنثى، قيل: من تبيين لجنس العامل، فيكون التقدير الذي هو ذكر أو أنثى. ومن قيل: زائدة لتقدم النفي في الكلام. وقيل: من في موضع الحال من الضمير الذي في العامل في منكم أي: عامل كائن منكم كائنا من ذكر أو أنثى. وقال أبو البقاء: من ذكر أو أنثى بدل من منكم، بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة انتهى. فيكون قد أعاد العامل وهو حرف الجر، ويكون بدلا تفصيليا من مخاطب. ويعكر على أن يكون بدلا تفصيليا عطفه بأو، والبدل التفصيلي لا يكون إلا بالواو كقوله:
* وكنت كذي رجلين رجل صحيحة * ورجل رمى فيها الزمان فشلت * ويعكر على كونه من مخاطب أن مذهب الجمهور: أنه لا يجوز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة، وأجاز ذلك الأخفش. هكذا أطلق بعض أصحابنا الخلاف وقيده بعضهم بما كان البدل فيه لإحاطة، فإنه يجوز إذ ذاك. وهذا التقييد صحيح، ومنه (تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا) فقوله لأولنا وآخرنا بدل من ضمير المتكلم في قوله: لنا وقول الشاعر:
(١٥٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 145 146 147 148 149 150 151 152 153 154 155 ... » »»