تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٥٤
نظير قوله في الأمر: * (اهدنا الصراط المستقيم) * * (خبيرا يأيها الذين ءامنوا ءامنوا) * وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب، وهو في المعنى للمخاطب. وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب، لأن التقلب لو غره لاغتر به، فمنع السبب ليمتنع المسبب انتهى كلامه. وملخص الوجهين اللذين ذكرهما: أن يكون الخطاب له والمراد أمته، أوله على جهة التأكيد والتنبيه، وإن كان معصوما من الوقوع فيه كما قيل:
* قد يهز الحسام وهو حسام * ويجب الجواد وهو جواد * وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب: لا يغرنك ولا يصدنك ولا يغرنكم وشبهه بالنون الخفيفة. وتقلبهم: هو تصرفهم في التجارات قاله: ابن عباس، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. أو ما يجري عليهم من النعم قاله: عكرمة، ومقاتل. أو تصرفهم غير مأخوذين بذنوبهم قاله: بعض المفسرين.
* (متاع قليل) * أي ذلك التقلب والتبسط شيء قليل متعوا به، ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. وقلته باعتبار انقضائه وزواله، وروي: * (ما * الدنيا فى الاخرة إلا * مثل ما * يجعل * أحدكم * مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع) * أخرجه الترمذي.
وروي: * (ما) * أو باعتبار ما فاتهم من نعيم الآخرة، أو باعتبار ما أعد الله للمؤمنين من الثواب.
* (الله والله عنده حسن الثواب لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم) * ثم المكان الذي يأوون إليه إنما هو جهنم، وعبر بالمأوى إشعارا بانتقالهم عن الأماكن التي تقلبوا فيها وكان البلاد التي تقلبوا فيها إنما كانت لهم أماكن انتقال من مكان إلى مكان، لا قرار لهم ولا خلود. ثم المأوى الذي يأوون إليه ويستقرون فيه هو جهنم.
* (وبئس المهاد) * أي وبئس المهاد جهنم. وقال الحطيئة:
* أطوف ما أطوى ثم آوى * إلى بيت قعيدته لكاع * * (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها) * لما تضمن ما تقدم إن ذلك التقلب والتصرف في البلاد هو متاع قليل، وإنهم يأوون بعد إلى جهنم، فدل على قلة ما متعوا به، لأن ذلك منقض بانقضاء حياتهم، ودل على استقرارهم في النار. استدرك بلكن الأخبار عن المتقين بمقابل ما أخبر به عن الكافرين، وذلك شيئان: أحدهما مكان استقرار وهي الجنات، والثاني ذكر الخلود فيها وهو الإقامة دائما والتمتع بنعيمها سرمدا. فقابل جهنم بالجنات، وقابل قلة متاعهم بالخلود الذي هو الديمومة في النعيم، فوقعت لكن هنا أحسن موقع، لأنه آل معنى الجملتين إلى تكذيب الكفار وإلى تنعيم المتقين، فهي واقعة بين الضدين. وقرأ الجمهور: لكن خفيفة النون. وقرأ أبو جعفر: بالتشديد، ولم يظهر لها عمل، لأن اسمها مبني.
* (نزلا من عند الله) * النزل ما يعد للنازل من الضيافة والقرى. ويجوز تسكين راية، وبه قرأ: الحسن، والنخعي، ومسلمة بن محارب، والأعمش. وقال الشاعر:
* وكنا إذا الجبار بالجيش خافنا * جعلنا القنا والمرهفات له نزلا *
(١٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 149 150 151 152 153 154 155 156 157 158 159 ... » »»