تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١١٥
لمعنى الماضي إذا كانت حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره، فإذا كانت بمعنى إن الشرطية تخلص المضارع لمعنى الاستقبال. ومضمون هذا الجواب أنهم علقوا الاتباع على تقدير وجود علم القتال، وعلمهم للقتال منتف، فانتفى الاتباع واخبارهم بانتفاء علم القتال منهم إما على سبيل المكابرة والمكادبة، إذ معلوم أنه إذا خرج عسكران وتلاقيا وقد قصد أحدهما الآخر من شقة بعيدة في عدد كثير وعدد، وخرج إليهم العسكر الآخر من بلدهم للقائهم قبل أن يصلوا بلدهم واثقين بنصر الله مقاتلين في سبيل الله، وإن كانوا أقل من أولئك، أنه سينشب بينهم قتال لا محالة، فأنكروا علم ذلك رأسا لما كانوا عليه من النفاق والدغل والفرح بالاستيلاء على المؤمنين. وإما على سبيل التخطئة لهم في ظنهم أن ذلك قتال في سبيل الله. وليس كذلك، إنما هو رمي النفوس في التهلكة، إذ لا مقاومة لهم بحرب الكفار لكثرتهم وقلة المؤمنين، لأن رأى عبد الله بن أبي كان في الإقامة بالمدينة وجعلها ظهرا للمؤمنين، وما كان يستصوب الخروج كما مر ذكره في قصة أحد.
* (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) * وجه الأقربية التي هي الزيادة في القرب إنهم كانوا يظهرون الإيمان، ولم تكن تظهر لهم إمارة تدل على الكفر، فلما انخذلوا عن المؤمنين وقالوا ما قالوا زادوا قربا للكفر، وتباعدوا عن الإيمان. وقيل: هو على حذف مضاف أي: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين.
وأقرب هنا افعل تفضيل، وهي من القرب المقابل للبعد. ويعدي بإلى وباللام وبمن، فيقال: زيد أقرب لكذا، وإلى كذا، ومن كذا من عمرو. فمن الأولى ليست التي يتعدى بها افعل التفضيل مطلقا في نحو: زيد أفضل من عمرو. وحرفا الجر هنا يتعلقان بأقرب، وهذا من خواص أفعل التفضيل إنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد، وليس أحدهما معطوفا على الآخر. ولا بدلا منه بخلاف سائر العوامل، فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد إلا بالعطف، أو على سبيل البدل. فتقول: زيد بالنحو أبصر منه بالفقه.
والعامل في يومئذ أقرب. ومنهم متعلق بأقرب أيضا، والجملة المعوض منها التنوين هي السابقة، أي: هم قوم إذ قالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم. وذهب بعض المفسرين فيما حكى النقاش: إلى أن أقرب ليس هو هنا المقابل للأبعد، وإنما هو من القرب بفتح القاف والراء وهو المطلب، والقارب طالب الماء، وليلة القرب ليلة الوداد، فاللفظة بمعنى الطلب. ويتعين على هذا القول التعدية باللام، ولا يجوز أن تعدى بإلى ولا بمن التي لا تصحب كل أفعل التفضيل، وصار نظير زيد أقرب لعمرو من بكر. وأكثر العلماء على أن هذه الجملة تضمنت النص على كفرهم. قال الحسن: إذا قال الله: أقرب، فهو اليقين بأنهم مشركون. كقوله: (مائة ألف أو يزيدون) فالزيادة لا شك فيها، والمكلف لا ينفك عن الكفر أو الإيمان. فلما دلت على الأقربية من الكفر لزم حصول الكفر.
وقال الواحدي في الوسيط: هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر، لأنه تعالى لم يطلق القول عليهم بتكفيرهم مع أنهم كانوا كافرين مع إظهارهم لقول: لا إلاه إلا الله محمد رسول الله. قال الماتريدي: أقرب أي ألزم على الكفر، وأقبل له مع وجود الكفر منهم حقيقة، لا على القرب إليه قبل الوقوع والوجود لقوله: * (ءان * رحمت الله قريب من المحسنين) * أي هي لهم لا على القرب قبل الوجود، لكنهم لما كانوا أهل نفاق والكفر لم يفارق قلوبهم وما كان من أيمانهم، كان بظاهر اللسان قد يفارقها في أكثر أوقاتهم، وصفوا به. ويحتمل أن يحمل على القرب من حيث كانوا شاكين في الأمر، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان، فهو أقرب إلى الكفر. أو من حيث قالوا للمؤمنين: (ألم نكن معكم) وللكافرين: (ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين) أو من حيث ما أظهروا من الإيمان كذب، والكفر نفسه كذب. فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم أقرب إليه وهو الكفر، أو من
(١١٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 ... » »»