تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٥٣٨
هذا الوجه الزمخشري، وهو قول جميع النحاة قبله. قال: ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره: أيتولون فغير دين الله يبغون. انتهى. وقد تقدم ذكر هذا والكلام على مذهبه في ذلك، وأمعنا الكلام عليه في كتاب (التكميل) من تأليفنا.
وانتصب: غير، على أنه مفعول يبغون، وقدم على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل، قاله الزمخشري. ولا تحقيق فيه، لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات، إنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله، وانما جاء تقديم المفعول هنا من باب الاتساع، وشبه: يبغون، بالفاصلة بآخر الفعل.
* (وله أسلم من فى * السماوات والارض * طوعا وكرها) * أسلم عند الجمهور: استسلم وانقاد، قال ابن عباس: أسلم طوعا بحالته الناطقة عند أخذ الميثاق عليه، وكرها عند دعاء الأنبياء لهم إلى الإسلام. وقال مجاهد: سجود ظل المؤمن طائعا وسجود ظل الكافر كاره. كما قال تعالى: * (ولله يسجد من فى * السماوات والارض * طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والاصال) * وقال مجاهد أيضا، وأبو العالية، والشعبي: ما يقار معناه: أسلم أقر بالخالقية والعبودية، وإن كان فيهم من أشرك في العبادة، فمن أشرك أسلم كرها. ومن أخلص أسلم طوعا. وقال الحسن: أسلم قوم طوعا وقوم خوف السيف. وقال مطر الوراق: أسلم من في السماوات طوعا وكذلك الأنصار، وبنو سليم، وعبد القيس، وأسلم سائر الناس كرها حذر القتال والسيف. وأسلم على هذا القول في ضمنه الإيمان. وقال قتادة: الإسلام كرها هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه. وقال ابن عطية: ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك، وهذا غير موجود إلا في أفراد. انتهى. وقال عكرمة: طوعا باضطرار الحجة. وقال الزمخشري: طوعا بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه، وكرها و بالسيف، أو بمعاينة ما يلجىء إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإدراك الغرق فرعون، والإشفاء على الموت * (فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده) *. انتهى. فلفق الزمخشري تفسير: طوعا، من قول عكرمة وتفسير قوله: وكرها، من قول مطر الوراق وقول قتادة. وقال الكلبي: طوعا بالولادة على الإسلام، وكرها بالسيف.
وقال ابن كيسان: المعنى: وله خضع من في السماوات والأرض فيما صورهم فيه ودبرهم عليه، وما يحدث فيهم فهم لا يمتنعون عليه كرهوا ذلك أو أحبوه، رضوا بذلك أو سخطوه؛ وهذا معنى قول الزجاج: إن الإسلام هنا الخضوع لنفوذ أمره في جبلته، لا يقدر أحد أن يمتنع مما جبل عليه ولا أن يغيره والذي يظهر عموم من في السماوات، وخصوص من في الأرض.
والطوع هو الذي لا تكلف فيه، والكره ما فيه مشقة، فإسلام من في السماوات طوع صرف إذ هم خالون من الشهوات الداعية إلى المخالفة، وإسلام من في الأرض، من كان منهم معصوما كان طوعا، ومن كان غير معصوم كان كرها، بمعنى أنه في مشقة، لأن التكاليف جاءت على مخالفة الشهوات النفسانية، فلو لم يأت رسول من الله مبشر بالثواب ومنذر بالعقاب لم يلتزم الإنسان شيئا من التكاليف.
وهذه الأقوال لا تخرج: أسلم، فيها عن أن يحمل على الاستسلام، وعلى الاعتقاد، وعلى الإقرار باللسان، وعلى التزام الأحكام. وقد قيل بهذا كله.
والجملة من قوله: * (وله أسلم) * حالية. و: طوعا وكرها، مصدران في موضع الحال، أي: طائعين وكارهين. وقيل: هما مصدران على خلاف الصدر.
(٥٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 533 534 535 536 537 538 539 540 541 542 543 ... » »»