تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٥٣٢
وشهادته تعالى عليهم بذلك، وهذا العهد مذكور في كتبهم وشاهد بذلك أنبياؤهم.
وقرأ أبي، وعبد الله: ميثاق الذين أوتوا الكتاب، بدل: النبيين، وكذا هو في مصحفيهما. وروي عن مجاهد أنه قال: هكذا هو القرآن، وإثبات النبيين خطأ من الكاتب، وهذا لا يصح عنه لأن الرواة الثقات نقلوا عنه أنه قرأ: النبيين كعبد الله بن كثير وغيره، وإن صح ذلك عن غيره فهو خطأ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان.
والخطاب بقوله: وإذ أخذ، يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم)، أمره أن يذكر أهل الكتاب بما هو في كتبهم من أخذ الميثاق على النبيين، ويجوز أن يتوجه إلى أهل الكتاب أمروا أن يذكروا ذلك، وعلى هذين التقديرين يكون العامل: أذكر، أو: أذكروا، ويجوز أن يكون العامل في: إذ، قال من قوله: * (قال ءأقررتم) * وهو حسن، إذ لا تكلف فيه.
قيل: ويجوز أن يكون معطوفا على ما تقدم من لفظ إذ، والعامل فيها: اصطفى، وهذا بعيد جدا.
وظاهر الكلام يدل على أن الله هو الآخذ ميثاق النبيين فروي عن علي، وابن عباس، وطاووس، والحسن، والسدي: أن الذين أخذ ميثاقهم هم الأنبياء دون أممهم، أخذ عليهم أن يصدق بعضهم بعضا، وأن ينصر بعضهم بعضا، ونصرة كل نبي لمن بعده توصية من آمن به أن ينصره إذا أدرك زمانه. وينبو عن هذا المعنى لفظ: * (ثم جاءكم رسول) * إلى آخر الكلام.
وقال ابن عباس أيضا فيما روى عنه: أخذ ميثاق النبيين وأممهم على الأيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم) ونصره، واجتزأ بذكر النبيين من ذكر أممها لأن الأمم أتباع للأنبياء، ويدل عليه قول علي كرم الله وجهه: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم)، وأمره بأخذ العهد على قومه فيه بأن يؤمنوا به وينصروه إن أدركوا زمانه. وروي عن ابن عباس أيضا: أنه تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه أخذ الميثاق على جميع المرسلين أن يقروا بمحمد صلى الله عليه وسلم). وعلى هذين القولين يكون قوله: * (ثم جاءكم رسول) * عني به واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلم)، ولا يكون جنسا. ويبعد قول ابن عباس: أن الميثاق كان حين أخرجهم من ظهر آدم كالذر.
قرأ حمزة: لما آتيناكم، لأن الظاهر أن ذلك كان بعد إيتاء الكتاب والحكمة. و: ميثاق، مضاف إلى النبيين، فيحتمل أن يكون النبيون هم الموثقون للعهد على أممهم، ويحتمل أن يكونوا هم الموثق عليهم، والذي يدل عليه ما قبل الآية من قوله: * (ما كان لبشر أن يؤتيه الله) * الآية وما بعدها من قوله: * (ومن * يبتغ غير الإسلام دينا) * أن المراد بقوله * (ثم جاءكم رسول) * هو محمد صلى الله عليه وسلم)، ولذلك جاء مصدقا لما معكم. وكثيرا ما وصف بهذا الوصف في القرآن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم)، ألا ترى إلى قوله * (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق) *؟ وكذلك وصف كتابه بأنه مصدق لما في كتبهم، وإذا تقرر هذا كان المجاز في صدر الآية فيكون على حذف مضاف أي: وإذ أخذ الله ميثاق أتباع النبيين من أهل الكتاب، أو ميثاق أولاد النبيين، فيوافق صدر الآية ما بعدها، وجعل ذلك ميثاقا للنبيين على سبيل التعظيم لهذا الميثاق، أو يكون المأخوذ عليهم الميثاق مقدرا بعد النبيين، التقدير: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على أممهم. ويبين هذا التأويل قراءة أبي، وعبد الله: ميثاق الذين أوتوا الكتاب، ويبين أيضا أن الميثاق كان على الأمم قوله: * (فمن تولى بعد ذالك فأولئك هم الفاسقون) * ومحال هذا الفرض في حق النبيين، وإنما ذلك في حق الأتباع.
وقرأ جمهور السبعة: لما، بفتح اللام وتخفيف الميم وقرأ حمزة: لما، بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير، والحسن: لما، بتشديد الميم.
فأما توجيه قراءة الجمهور ففيه أربعة أقوال.
أحدهما: أن: ما، شرطية منصوبة على المفعول بالفعل بعدها، واللام قبلها موطئة لمجيء: ما، بعدها جوابا باللقسم، وهو أخذ الله ميثاق. و: من، في قوله: من كتاب، كهي، في قوله: * (ما ننسخ من ءاية) * والفعل بعد: ما، ماض معناه الاستقبال لتقدم، ما، الشرطية عليه. وقوله: ثم جاءكم، معطوف على الفعل بعد: ما، فهو في حيز الشرط، ويلزم أن يكون في قوله: ثم جاءكم، رابط يربطها بما عطفت عليه، لأن: جاءكم، معطوف على الفعل بعد: ما، و: لتؤمنن به، جواب لقوله * (أخذ الله ميثاق النبيين) * ونظيره من الكلام في التركيب: أقسم لأيهم صحبت، ثم أحسن إليه رجل تميمي لأحسنن إليه، تريد لأحسنن إلى الرجل التميمي. فلأحسنن جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لدلالة
(٥٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 527 528 529 530 531 532 533 534 535 536 537 ... » »»