تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٥٤
أصلح لما فيه من الثقة بالله، وعدم الاعتراض، ولأنه اختيار والعارف ليس له اختيار.
وقال قوم منهم: ترك الذنوب هو الدعاء لأنه إذا تركها تولى الله أمره وأصلح شأنه، قال تعالى: * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) *.
وقد تؤولت الإجابة والدعاء هنا على وجوه. أحدها: أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله، لأنك دعوته ووجدته، والإجابة عبارة عن القبول لما سمي التوحيد دعاء سمي القبول إجابة، لتجانس اللفظ.
الوجه الثاني: أن الإجابة هو السماع فكأنه قال: أسمع.
الوجه الثالث: أن الدعاء هو التوبة عن الذنوب لأن التائب يدعو الله عند التوبة، والإجابة قبول التوبة.
الوجه الرابع: أن يكون الدعاء هو العبادة، وفي الحديث: (الدعاء العبادة) قال تعالى: * (وقال ربكم ادعونى أستجب لكم) * ثم قال: * (إن الذين يستكبرون عن عبادتى) * والإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب.
الوجه الخامس: الإجابة أعم من أن يكون بإعطاء المسؤول وبمنعه، فالمعنى: إني أختار له خير الأمرين من العطاء والرد.
وكل هذه التفاسير خلاف الظاهر.
* (فليستجيبوا لى) * أي: فيطليوا، أي: فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني، قاله ثعلب، فيكون: استفعل، قد جاءت بمعنى الطلب، كاستغفر، وهو الكثير فيها: أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة كما أني أجبيبهم إذا دعوني لحوائجهم، قاله مجاهد، وأبو عبيدة، وغيرهما. ويكون: استفعل، فيه بمعنى أفعل، وهو كثير في القرآن * (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع) * * (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى) * إلا أن تعديته في القرآن باللام، وقد جاء في كلام العرب معدى بنفسه قال:
* وداع دعا يا من يجيب إلى النداء * فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي: فلم يجبه، ومثل ذلك، أعني كون استفعل موافق أفعل، قولهم: استبل بمعنى أبل، واستحصد الزرع واحصد، واستعجل الشيء وأعجل، واستثاره وأثاره، ويكون استفعل موافقة أفعل متعديا ولازما، وهذا المعنى أحد المعاني التي ذكرناها لاستفعل في قوله: * (وإياك نستعين * (.
* وقال أبو رجاء الخراساني: معناه فليدعوا لي، وقال الأخفش: فليذعنوا الإجابة، وقال مجاهد أيضا، والربيع: فليطيعوا، وقيل: الاستجابة هنا التلبية، وهو: لبيك اللهم لبيك، واللام لام الأمر، وهي ساكنة، ولا نعلم أحدا قرأها بالكسر.
* (وليؤمنوا بي) * معطوف على: فليجيبوا لي، ومعناه الأمر بالإيمان بالله، وحمله على الأمر بإنشاء الإيمان فيه بعد لأن صدر الآية يقتضى أنهم مؤمنون، فلذلك يؤول على الديمومة، أو على إخلاص الدين، والدعوة، والعمل، أو في الثواب على الاستجابة لي بالطاعة أو بالإيمان وتوابعه، أو بالإيمان في: أني أجيب دعاءهم، خمسة أقوال آخرها لأبي رجاء الخراساني.
* (لعلهم يرشدون) * قراءة الجمهور بفتح الياء وضم الشين، وقرأ قوم: يرشدون مبنيا للمفعول، وروي عن أبي حيوة، وإبراهيم بن أبي عبلة: يرشدون بفتح الياء وكسر الشين، وذلك باختلاف عنهما، وقرئ أيضا يرشدون بفتحهما، والمعنى: أنهم إذا استجابوا لله وآمنوا به كانوا على رجاء من حصول الرشد لهم، وهو الاهتداء لمصالح دينهم ودنياهم، وختم الآية برجاء الرشد من أحسن الأشياء لأنه تعالى لما أمرهم بالاستجابة له، وبالإيمان، نبه على أن هذا التكليف ليس القصد منه إلا وصولك بامتثاله إلى رشادك في نفسك، لا يصل إليه تعالى منه شيء من منافعه، وإنما ذلك مختص بك.
ولما كان الإيمان شبه بالطريق المسلوك في القرآن، ناسب ذكر الرشاد وهو: الهداية، كما قال تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم) * * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) * * (وهديناهما الصراط المستقيم) *.
* (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) * سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري، عن اليراء: لما نزل صوم رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فنزلت، وقيل: كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة، أو يرقد، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه ما حل
(٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 ... » »»