تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٩
المذهب: ثلاثون ميلا، وفي غير المذهب ثلاثة أميال.
وأجمعوا على أن سفر الطاعة من جهاد وحج وصلة رحم وطلب معاش ضروري مبيح.
فأما سفر التجارة والمباح ففيه خلاف، وقال ابن عطية: والقول بالإجازة أظهر، وكذلك سفر المعاصي مختلف فيه أيضا، والقول بالمنع أرجح. انتهى كلامه.
واتفقوا على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، قالوا: ولا خلاف أنه لا يجوز لمؤمل السفر أن يفطر قبل أن يخرج، فان أفطر فقال أشهب: لا يلزمه شيء سافر، أو لم يسافر. وقال سحنون: عليه الكفارة سافر، أو لم يسافر، وقال عيسى، عن ابن القاسم: لا يلزمه إلا قضاء يومه، وروي عن أنس أنه أفطر وقد أراد السفر، ولبس ثياب السفر، ورجل دابته، فأكل ثم ركب. وقال الحسن يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج، وقال أحمد: إذا برز عن البيوت، وقال إسحاق: لا بل حتى يضع رجله في الرحل.
ومن أصبح صحيحا ثم اعتل أفطر بقية يومه، ولو أصبح في الحضر ثم سافر فله أن يفطر، وهو قول ابن عمر، والشعبي، وأحمد، وإسحاق، وقيل: لا يفطر يومه ذلك، وإن نهض في سفره وهو قول الزهري، ويحيى الأنصاري، ومالك، والأوزاعي، وابن حنيفة، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي.
واختلفوا إن أفطر، فكل هؤلاء قال: يقضي ولا يكفر. وقال ابن كنانة: يقضي ويكفر، وحكاه الباجي عن الشافعي، وقال به ابن العربي واختاره، وقال أبو عمر بن عبد البر: ليس بشيء، لأن الله أباح له الفطر في الكتاب والسنة، ومن أوجب الكفارة فقد أوجب ما لم يوجبه الله.
وظاهر قوله: * (أو على سفر) * إباحة الفطر للمسافر، ولو كان بيت نية الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر، ولا كفارة عليه، قاله الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والشافعي وسائر فقهاء الكوفة.
وقال مالك: عليه القضاء والكفارة، وروي عنه أيضا أنه: لا كفارة عليه، وهو قول أكثر أصحابه.
وموضع أو على السفر، نصب لأنه معطوف على خبر: كان، ومعنى: أو هنا التنويع، وعدل عن اسم الفاعل وهو: أو مسافر إلى، أو على سفر، إشعارا بالاستيلاء على السفر لما فيه من الاختيار للمسافر، بخلاف المرض، فإنه يأخذ الإنسان من غير اختيار، فهو قهري، بخلاف السفر؛ فكان السفر مركوب الإنسان يستعلى عليه، ولذلك يقال: فلان على طريق، وراكب طريق إشعارا بالاختيار، وأن الإنسان مستول على السفر مختار لركوب الطريق فيه.
* (فعدة من أيام أخر) * قراءة الجمهور برفع عدة على أنه مبتدأ محذوف الخبر، وقدر: قبل، أي: فعليه عدة وبعد أي: أمثل له، أو خبر مبتداء محذوف، أي: فالواجب، أو: فالحكم عدة.
وقرئ: فعدة، بالنصب على إضمار فعل، أي: فليصم عدة، وعدة هنا بمعنى معدود، كالرعي والطحن، وهو على حذف مضاف، أي: فصوم عدة ما أفطر، وبين الشرط وجوابه محذوف به يصح الكلام، التقدير: فأفطر فعدة، ونظير في الحذف: * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) * أي: فضرب فانفلق. ونكر * (عدة) * ولم يقل: فعدتها، أي: فعدة الأيام التي أفطرت اجتزاء، إذ المعلوم أنه لا يجب عليه عدة غير ما أفطر فيه مما صامه، والعدة المعدود، فكان التنكير أخصر * (ومن * أيام) * في موضع الصفة لقوله فعدة، وأخر: صفة لأيام، وصفة الجمع الذي لا يعقل تارة يعامل معاملة الواحدة المؤنثة وتارة يعامل معاملة جمع الواحدة المؤنثة.
فمن الأول: * (إلا أياما معدودة) * ومن الثاني: * (إلا أياما معدودات) * فمعدودات: جمع لمعدودة. وأنت لا تقول: يوم معدودة، إنما تقول: معدود، لأنه مذكر، لكن جاز ذلك في جمعه، وعدل عن أن يوصف الأيام بوصف الواحدة المؤنث، فكان، يكون: من أيام أخرى، وإن كان جائزا فصيحا كالوصف بأخر لأنه كان يلبس أن يكون صفة لقوله * (فعدة) *، فلا يدرى أهو وصف لعدة، أم لأيام، وذلك لخفاء الإعراب لكونه مقصورا، بخلاف: * (ءاخر) * فإنه نص في أنه صفة لأيام لاختلاف إعرابه مع إعراب فعدة، أفلا ينصرف للعلة التي ذكرت في النحو، وهي جمع أخرى مقابلة أخر؟ وأخر
(٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 ... » »»