تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٤٤
تغيب الشمس إذ مناط التكليف العقل، وقال مالك وعبيد الله العنبري: يقضي الصوم ولا يقضي الصلاة؛ وقال أبو حنيفة، والثوري ومحمد، وأبو يوسف، وزفر: إذا جن في رمضان كله فلا قضاء عليه، وإن أفاق في شيء منه قضاه كله.
وقرأ الجمهور: فدية طعام مسكين، بتنوين الفدية، ورفع طعام، وإفراد مسكين، وهشام كذلك إلا أنه قرأ: مساكين بالجمع، وقرأ نافع، وابن ذكوان، بإضافة الفدية والجمع وإفراد الفدية، لأنها مصدر. ومن نون كان طعام بدلا من فدية، وكان في ذلك تبيين للفدية ما هي. ومن لم ينون فأضاف كان في ذلك تبيين أيضا وتخصص بالإضافة، وهي إضافة الشيء إلى جنسه، لأن الفدية اسم للقدر الواجب، والطعام يعم الفدية وغيرها، وفي (المنتخب) أنه يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة. قال: لأن الفدية لها ذات، وصفتها أنها طعام، وهذا ليس بجيد، لأن طعاما ليس بصفة، وهو هنا إما أن يكون يراد به المصدر كما يراد بعطاء الإعطاء، أو يكون يراد به المفعول كما يراد بالشراب المشروب، وعلى كلا التقديرين لا يحسن به الوصف.
أما إذا كان مصدرا فإنه لا يوصف به إلا عند إرادة المبالغة، ولا معنى لها هنا، وأما إذا أريد به المفعول فلأنه ليس جاريا على فعل ولا منقاسا، فلا تقول: في مضروب ضراب، ولا في مقتول قتال، وإنما هو شبيه الرعي والطحن والدهن، لا يوصف بشيء منها، ولا يعمل عمل المفعول، ألا ترى أنه لا يجوز فيها، مررت برجل طعام خبزه ولا شراب ماؤه، فيرفع ما بعدها بها؟ وإذا تقرر هذا فهو ضعف أن يكون ذلك من إضافة الموصوف إلى صفته، ومن قرأ مساكين، قابل الجمع بالجمع، ومن أفرد فعلى مراعاة أفراد العموم أي: وعلى كل واحد ممن يطيق الصوم لكل يوم يفطره إطعام مسكين، ونظيره * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) * أي: فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة. وتبين من أفراد المسكين أن الحكم لكل يوم يفطر فيه مسكين، ولا يفهم ذلك من الجمع.
* (فمن تطوع خيرا فهو خير له) * أي: من زاد على مقدار الفدية في الطعام للمسكين، قاله مجاهد، وعلى عدد من يلزمه إطعامه، فيطعم مسكينين فصاعدا قاله ابن عباس، وطاووس، وعطاء، والسدي. أو جمع بين الإطعام والصوم، قاله ابن شهاب.
وانتصاب * (خيرا) * على أنه مفعول على إسقاط الحرف، أي: بخير، لأنه تطوع لا يتعدى بنفسه، ويحتمل أن يكون ضمن، تطوع معنى فعل متعد، فانتصب خيرا، على أنه مفعول به، وتقديره، ومن فعل متطوعا خيرا، ويحتمل أن يكون انتصابه على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: تطوعا خيرا، ودل وصف المصدر بالخيرية على خيرية المتطوع به، وتقدم ذكر قراءة من قرأ يطوع، فجعله مضارع أطوع، وأصله تطوع فأدغم، واجتلبت همزة الوصل. ويلزم في هذه القراءة أن تكون: من شرطية، ويجوز ذلك في قراءة من جعله فعلا ماضيا، والضمير في فهو، عائد على المصدر المفهوم من تطوع، أي: فالتطوع خير له، نحو قوله: * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * أي: العدل، وخير: خبر: لهو، وهو، هنا أفعل التفضيل، والمعنى: أن الزيادة على الواجب، إذا كان يقبل الزيادة، خير من الاقتصار عليه، وظاهر هذه الآية العموم في كل تطوع بخير، وإن كانت وردت في أمر الفدية في الصوم، وظاهر التطوع: التخيير في أمر الجواز بين الفعل والترك، وأن الفعل أفضل. ولا خلاف في ذلك، فلو شرع فيه ثم أفسده، لزمه القضاء عند أبي حنيفة، ولا قضاء عليه عند الشافعي.
* (وأن تصوموا خير لكم) * وقرأ أبي: والصوم خير لكم. هكذا نقل عن ابن عطية. ونقل الزمخشري: أن قراءته: والصيام خير لكم، والخطاب
(٤٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 ... » »»