تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٦
هذا المعنى عن معاذ بن جبل، وعطاء، وتكون إذ ذاك ما مصدرية.
وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال من الصيام، أي: مشبها ما كتب على الذين من قبلكم، وتكون ما موصولة أي: مشبها الذي كتب عليكم، وذو الحال هو: الصيام، والعامل فيها العامل فيه، وهو: كتب عليكم.
وأجاز ابن عطية أن تكون الكاف في موضع صفة لصوم محذوف، التقدير: صوما كما، وهذا فيه بعد، لأن تشبيه الصوم بالكتابة لا يصح، هذا إن كانت ما مصدرية، وأما إن كانت موصولة ففيه أيضا بعد، لأن تشبيه الصوم بالمصوم لا يصح إلا على تأويل بعيد.
وأجاز بعض النحاة أن تكون الكاف في موضع رفع على أنها نعت لقوله: الصيام، قال: إذ ليس تعريفه بمستحسن لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته بكما، إذ لا ينعت بها إلا النكرات، فهي بمنزلة: * (كتب عليكم الصيام) * انتهى كلامه، وهو هدم للقاعدة النحوية من وجوب توافق النعت والمنعوت في التعريف والتنكير، وقد ذهب بعضهم إلى نحو من هذا، وأن الألف واللام إذا كانت جنسية جاز أن يوصف مصحوبها بالجملة، وجعل من ذلك قوله تعالى: * (وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار) * ولا يقوم دليل على إثبات هدم ما ذهب إليه النحويون، وتلخص في: ما، من قوله: كما وجهان أحدهما: أن تكون مصدرية، وهو الظاهر، والآخر: أن تكون موصولة، بمعنى. الذي.
* (على الذين من قبلكم) *: ظاهره عموم الذين من قبلنا من الأنبياء وأممهم من آدم إلى زماننا. وقال علي: أولهم آدم، فلم يفترضها عليكم، يعني: أن الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم، فلم يفترضها عليكم خاصة، وقيل: الذين من قبلنا هم النصارى.
قال الشعبي وغيره: والمصوم معين وهو رمضان فرض على الذين من قبلنا وهم النصارى، احتاطوا له بزيادة يوم قبله ويوم بعده قرنا بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر، فنقلوه إلى الفصل الشمسي.
قال النقاش: وفي ذلك حديث عن دغفل، والحسن، والسدي.
وقيل: بل مرض ملك من ملوكهم، فنذر أن برئ أن يزيد فيه عشرة أيام، ثم آخر سبعة، ثم آخر ثلاثة، ورأوا أن الزيادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله.
وقيل: كان النصارى أولا يصومون، فإذا أفطروا فلا يأكلون ولا يشربون ولا يطؤون إذا ناموا، ثم انتبهوا في الليل، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخ بسبب عمر، وقيس بن صرمة. قال السدي أيضا، والربيع وأبو العالية.
قيل: وكذا كان صوم اليهود، فيكون المراد: بالذين من قبلنا، اليهود والنصارى، وقيل: الذين من قبلنا: هم اليهود خاصة، فرض علينا كما فرض عليهم، ثم نسخه الله بصوم رمضان.
قال الراغب: للصوم فائدتان رياضة الإنسان نفسه عن ما تدعوه إليه من الشهوات، والاقتداء بالملأ الأعلى على قدر الوسع. انتهى. وحكمة التشبيه أن الصوم عبادة شاقة، فإذا ذكر أنه كان مفروضا على من تقدم من الأمم سهلت هذه العبادة.
* (تتقون) * الظاهر: تعلق، لعل بكتب، أي: سبب فرضية الصوم هو رجاء حصول التقوى لكم، فقيل: المعنى تدخلون في زمرة المتقين، لأن الصوم شعارهم، وقيل: تجعلون بينكم وبين النار وقاية بترك المعاصي، فإن الصوم لإضعاف الشهوة وردعها، كما قال عليه السلام (فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء).
وقيل: تتقون الأكل والشرب والجماع في وقت وجوب الصوم، قاله السدي.
وقيل: تتقون المعاصي، لأن الصوم يكف عن كثير مما تتشوق إليه النفس، قاله الزجاج.
وقيل: تتقون محظورات الصوم، وهذا راجع لقول السدي.
* (أياما معدودات) * إن كان ما فرض صومه هنا هو رمضان، فيكون قوله أياما معدودات عني به رمضان، وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين، ووصفها بقوله: معدودات، تسهيلا على المكلف بأن هذه الأيام يحصرها العد ليست بالكثيرة التي تفوت العد، ولهذا وقع الاستعمال بالمعدود كناية على القلائل، كقوله: * (فى أيام معدودات) * * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) *
(٣٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 ... » »»