تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٥
ومنقطعه، والمراد بحدود الله مقدراته بمقادير مخصوصة وصفات مخصوصة.
الإدلاء: الإرسال للدلو، اشتق منه فعل، فقالوا: أدلى دلوه، أي: أرسلها ليملأها، وقيل: أدلى فلان بماله إلى الحاكم: رفعه. قال:
* وقد جعلت إذا ما حاجة عرضت * بباب دارك أدلوها بأقوام * ويقال: أدلى فلان بحجته: قام بها، وتدلى من كذا أي: هبط. قال:
* كتيس الظباء الأعفر انضرجت له * عقاب تدلت من شماريخ ثهلان * * (رحيم يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام) *: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أخبر تعالى: أولا بكتب القصاص وهو: إتلاف النفوس، وهو من أشق التكاليف، فيجب على القاتل إسلام نفسه للقتل، ثم أخبر ثانيا بكتب الوصية وهو: إخراج المال الذي هو عديل الروح، ثم انتقل ثالثا إلى كتب الصيام، وهو: منهك للبدن، مضعف له، مانع وقاطع ما ألفه الإنسان من الغذاء بالنهار، فابتداء بالأشق ثم بالأشق بعده، ثم بالشاق فبهذا انتقال فيما كتبه الله على عباده في هذه الآية، وكان فيما قبل ذلك قد ذكر أركان الإسلام ثلاثة: الإيمان، والصلاة، والزكاة، فأتى بهذا الركن الرابع، وهو: الصوم.
وبناء * (كتاب) * للمفعول في هذه المكتوبات الثلاثة، وحذف الفاعل للعلم به، إذ هو: الله تعالى، لأنها مشاق صعبة على المكلف، فناسب أن لا تنسب إلى الله تعالى ، وإن كان الله تعالى هو الذي كتبها، وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يبني الفعل للفاعل، كما قال تعالى: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * * (كتب الله لاغلبن أنا ورسلى) * * (أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان) * وهذا من لطيف علم البيان.
أما بناء الفعل للفاعل في قوله: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) * فناسب لاستعصاء اليهود وكثرة مخالفاتهم لأنبيائهم بخلاف هذه الأمة المحمدية، ففرق بين الخطابين لافتراق المخاطبين، ونادى المؤمنين عند إعلامهم بهذا المكتوب الثالث الذي هو الصيام لينبههم على استماع ما يلقي إليهم من هذا التكليف، ولم يحتج إلى نداء في المكتوب الثاني لانسلاكه مع الأول في نظام واحد، وهو: حضور الموت بقصاص أو غيره، وتباين هذا التكليف الثالث منها، وقدم الجار والمجرور على المفعول به الصريح وإن كان أكثر الترتيب العربي بعكس ذلك، نحو: ضرب زيد بسوط، لأن ما احتيج في تعدي الفعل إليه إلى واسطة دون ما تعدى إليه بغير واسطة، لأن البداءة بذكر المكتوب عليه أكثر من ذكر المكتوب لتعلق الكتب لمن نودي، فتعلم نفسه أولا أن المنادى هو المكلف، فيرتقب بعد ذلك لما كلف به.
والألف واللام في: الصيام، للعهد إن كانت قد سبقت تعبداتهم به، أو للجنس إن كانت لم تسبق.
وجاء هذا المصدر على فعال، وهو أحد البنائين الكثيرين في مصدر هذا النوع من الفعل، وهو الفعل الواوي العين، الصحيح الآخر، والبناءان هما فعول وفعال، وعدل عن الفعول وإن كان الأصل لاستثقال الواوين، وقد جاء منه شيء على الأصل: كالفوور، ولثقل اجتماع الواوين همز بعضهم فقال: الفؤور.
* (كما كتب) * الظاهر أن هذا المجرور في موضع الصفة لمصدر محذوف، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه على ما سبق، أي: كتبا مثل ما كتب أو كتبه، أي: الكتب منها كتب، وتكون السببية قد وقع في مطلق الكتب وهو الإيجاب، وإن كان متعلقه مختلفا بالعدد أو بغيره، وروي
(٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 ... » »»