وأما قوله: بتقدير فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قال: فالوصية للوالدين، فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه، فإن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلا في ضرورة الشعر، فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه.
قال سيبويه: وسألته، يعنى الخليل، عن قوله: إن تأتني أنا كريم، قال: لا يكون هذا إلا أن يضطر شاعر من قبل: إن أنا كريم، يكون كلاما مبتدا، والفاء، وإذا لا يكونان إلا معلقتين بما قبلهما، فكرهوا أن يكون هذا جوابا حيث لم يشبه الفاء، وقد قاله الشاعر مضطرا، وأنشد البيت السابق.
من يفعل الحسنات وذكر عن الأخفش: أن ذلك على إضمار الفاء، وهو محجوج بنقل سيبويه أن ذلك لا يكون إلا في اضطرار، وأجاز بعضهم أن تقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجار والمجرور الذي هو: عليكم، وهو قول لا بأس به على ما تقرره، فنقول: لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت إن ترك خيرا تشوف السامع لذكر المكتوب ما هو، فتكون الوصية مبتدأ، أو خبر المبتدأ على هذا التقدير، ويكون جوابا لسؤال مقدر، كأنه قيل: ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيرا؟ فقيل: الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة، أو: المكتوب الوصية للوالدين والأقربين، ونظيره: ضرب بسوط يوم الجمعة زيد المضروب أو المضروب زيد، فيكون هذا جوابا بالسؤال مقدر، كأنه قال: من المضروب؟ وهذا الوجه أحسن، وأقل تكلفا من الوجه الذي قبله، وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله الإيصاء، وضمير الإيصاء والوالدان معروفان، وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى: * (وبالوالدين إحسانا) *.
* (والاقربين) * جمع الأقرب، وظاهره أنه أفعل تفضيل، فكل من كان أقرب إلى الميت دخل في هذا اللفظ، وأقرب ما إليه الوالدان، فصار ذلك تعميما بعد تخصيص، فكأنهما ذكرا مرتين: توكيدا وتخصيصا على اتصال الخير إليهما، هذا مدلول ظاهر هذا اللفظ، وعند المفسرين: الأقربون الأولاد، أو من عدا الأولاد، أو جميع القرابات، أو من لا يرث من الأقارب. أقوال.
* (بالمعروف) * أي: لا يوصى بأزيد من الثلث، ولا للغني دون الفقير، وقال ابن مسعود: الأخل فالأخل، أي: الأحوج فالأحوج، وقيل: الذي لا حيف فيه، وقيل: كان هذا موكولا إلى اجتهاد الموصي، ثم بين ذلك وقدر: (بالثلث والثلث كثير). وقيل: بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة، فإنهم كانوا قد يوصون بالمال كله، وقيل: بالمعروف من ماله غير المجهول.
وهذه الأقوال ترجع إلى قدر ما يوصي به، وإلى تمييز من يوصى له، وقد لخص ذلك الزمخشري وفسره بالعدل، وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير، ولا يتجاوز الثلث، وتعلق بالمعروف بقوله: الوصية، أو بمحذوف، أي: كائنة بالمعروف، فيكون بالمعروف حالا من الوصية.
* (حقا على المتقين) * انتصب حقا على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، أي: حق ذلك حقا، قاله ابن عطية، والزمخشري. وهذا تأباه القواعد النحوية لأن ظاهر قوله: * (على المتقين) * إذن يتعلق على بحقا، أو يكون في موضع الصفة له، وكلا التقديرين يخرجه عن التأكيد، أما تعلقه به فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل بحرف مصدري، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل وذلك مطرد في الأمر والاستفهام، على خلاف في هذا الأخير على ما تقرر في علم النحو، وأما جعله صفة: لحقا أي: حقا كائنا على