تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٨٥
هو أنه لما ذكر أن الله تعالى أراد الاختلاف إلى مؤمن وكافر، وأراد الاقتتال، وأمر به المؤمنين، وكان الجهاد يحتاج صاحبه إلى الإعانة عليه، أمر تعالى بالنفقة من بعض ما رزق، فشمل النفقة في الجهاد، وهي، وإن لم ينص عليها، مندرجة في قوله: أنفقوا، وداخلة فيها دخولا أوليا، إذ جاء الأمر بها عقب ذكر المؤمن والكافر واقتتالهم، قال ابن جريج، والأكثرون: الآية عامة في كل صدقة واجبة أو تطوع وقال الحسن: هي في الزكاة، والزكاة منها جزء للمجاهدين، وقاله الزمخشري، قال: أراد الإنفاق الواجب لاتصال الوعيد به * (من قبل أن يأتى يوم) * لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق، لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه، ولا خلة حتى تسامحكم أخلاؤكم به، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعا يشفع لكم في حط الواجبات، لأن الشفاعة ثم في زيادة الفضل لا غير، * (والكافرون هم الظالمون) * أراد: والتاركون الزكاة هم الظالمون، فقال: والكافرون، للتغليظ، كما قال في آخر آية الحج. ومن كفر مكان: ومن لم يحج، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار، في قوله * (وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكواة) * انتهى كلامه.
ورد قوله بأنه ليس في الآية وعيد، فكأنه قيل: حصلوا منافع الآخرة حين تكون في الدنيا، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة، وقول الزمخشري: لأن الشفاعة ثم في زيادة الفضل لا غير، هو قول المعتزلة، لأن عندهم أن الشفاعة لا تكون للعصاة، فلا يدخلون النار، ولا للعصاة الذين دخلوا النار، فلا يخرجون منها بالشفاعة.
وقيل: المراد منه الإنفاق في الجهاد، ويدل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد، فكأن المراد منه الأنفاق في الجهاد، وهو قول الأصم.
قال ابن عطية: وظاهر هذه الآية أنها مراد بها جميع وجوه البر من سبيل خير، وصلة رحم، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين، يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية * (والكافرون هم الظالمون) * أي: فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال. انتهى كلامه.
وندب تعالى العبد إلى أن ينفق مما رزقه، والرزق، وإن تناول غير الحلال، فالمراد منه هنا الحلال، و: مما رزقناكم، متعلق بقوله: أنفقوا، و: ما، موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: رزقناكموه، وقيل: ما مصدرية أي: من رزقنا إياكم، و: من قبل، متعلق: بأنفقوا، أيضا، واختلف في مدلول: من: فالأولى: للتبعيض، والثانية: لابتداء الغاية، وزعم بعضهم أنها تتعلق: برزقناكم.
* (من قبل أن يأتى يوم) * حذر تعالى من الإمساك قبل أن يأتي هذا اليوم، وهو يوم القيامة.
* (لا بيع فيه) * أي: لا فدية فيه لأنفسكم من عذاب الله، وذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة وأخذ البدل، وقيل: لافداء عما منعتم من الزكاة تبتاعونه تقدمونه عن الزكاة يومئذ. وقيل: لا بيع فيه للأعمال فتكتسب.
* (ولا خلة) * أي: لا صداقة تقتضي المساهمة، كما كان ذلك في الدنيا، والمتقون بينهم في ذلك اليوم خلة، لكن لا نحتاج إليها، وخلة غيرهم لا تغني من الله شيئا.
* (ولا شفاعة) * اللفظ عام والمراد الخصوص، أي: ولا شفاعة للكفار، وقال تعالى: * (لنا من شافعين ولا صديق حميم) * أو: ولا شفاعة إلا بإذن الله، قال تعالى: * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) * وقال: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * فعلى الخصوص بالكفار لا شفاعة لهم ولا منهم، وعلى تأويل الإذن: لا شفاعة للمؤمنين إلا بإذنه. وقيل: المراد العموم، والمعنى أن انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع عنده لا يكون يوم القيام البتة، وأما الشفاعة التي توجد بالإذن من الله تعالى فحقيقتها رحمة الله، لكن شرف تعالى الذي أذن له في أن يشفع.
وقد تعلق بقوله: ولا
(٢٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 280 281 282 283 284 285 286 287 288 289 290 ... » »»