تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٩١
كسب له؛ وكذلك فسر مجاهد الكسب بالعقد، كآية المائدة * (بما عقدتم الايمان) *، وقال ابن عباس، والنخعي: هو أن يحلف كاذبا أو على باطل، وهي الغموس؛ وقال زيد بن أسلم: هو أن يعقد الإشراك بقلبه إذا قال: هو مشرك، إن فعل كذا، وقال قتادة: بما تعمد القلب من المآثم. وهذا الذي ذكره تعالى: من المؤاخذة، هو العقوبة في الآخرة إن كانت اليمين غموسا، أو غير غموس وترك تكفيرها، والعقوبة في الدنيا بإلزام الكفارة إن كانت مما تكفر.
واختلفوا في اليمين الغموس، فقال مالك، وجماعة: لا تكفر، وهي أعظم ذنبا من ذلك. وقال عطاء، وقتادة، والربيع،. والشافعي: تكفر، والكفارة مؤاخذة.
والغموس ما قصد الرجل في الحلف به الكذب، وهي المصبورة، سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ومصبورة لأن صبرها مغالبة وقوة عليها، كما يصبر الحيوان للقتل والرمي.
وقسمت الأيمان إلى: لغو ومنعقدة، وغموس، والمنعقدة: هي على المستقبل التي يصح فيها الحنث والبر، وبينا اللغو والغموس، وقسمت أيضا إلى: حلف على ما من محرم وهي: الكاذبة، ومباح: وهي الصادقة، وعلى مستقبل عقدها طاعة والمقام عليها طاعة، وحلها معصية أو مكروه، ومقابلها أو ما هو مباح عقدها والمقام عليها وحلها، ولكن دخلت هنا بين نقيضين باعتبار وجود اليمين لأنها لا تخلو من أن لا يقصدها القلب، ولكن جرت على اللسان وهي: اللغو، أو تقصدها وهي: المنعقدة، وهما ضدان باعتبار أن لا توجد اليمين، إذ الإنسان قد يخلو من اليمين، وهذان النوعان من النقيضين والضد أحسن ما يقع فيه: لكن، وأما الخلافان ففي جواز وقوعها بينهما خلاف، وقد تقدم طرف من هذا، وإبدال الهمزة واوا في مثل: يؤاخذ، مقيس، ونحوه: يؤذن، ويؤلف، وفي قوله: * (ولاكن يؤاخذكم بما * بما كسبت قلوبكم) * محذوف تقديره: ولكن يؤاخذكم في أيمانكم بما كسبت قلوبكم، وحذف لدلالة ما قبله عليه، و: ما، في قوله: بما، موصولة، والعائد محذوف، ويحتمل أن تكون مصدرية، ويحسنه مقابلته بالمصدر، وهو قوله: باللغو، وجوز أن تكون نكرة موصوفة.
* (والله غفور حليم) * جاءت هاتان الصفتان تدلان على توسعة الله على عباده حيث لم يؤاخذهم باللغو في الإيمان، وفي تعقيب الآية بهما إشعار بالغفران، والحلم عن من أوعده تعالى بالمؤاخذة، وإطماع في سعة رحمته، لأن من وصف نفسه بكثرة الغفران والصفح مطموع في ما وصف به نفسه، فهذا الوعيد الذي ذكره تعالى مقيد بالمشيئة، كسائر وعيده تعالى.
* (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) * قال ابن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يترك المرأة، ولا يحب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها، فيتركها لا أيما، ولا ذات زوج، فأنزل الله هذه الآية.
وقال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر، فوقت الله ذلك.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنه تقدم شيء من أحكام النساء، وشئ من أحكام الإيمان، وهذه الآية جمعت بين الشيئين.
وقرأ عبد الله: للذين آلوا، بلفظ الماضي وقرأ أبي، وابن عباس: للذين يقسمون.
والإيلاء، كما تقدم، هو الحلف، وقد ذكرنا الإيلاء من النساء كيف كان في الجاهلية، وأما الإيلاء الشرعي بسبب وطء النساء، فقال ابن عباس: هو الحلف أن لا يطأها أبدا، وقال ابن مسعود، والنخعي، وقتادة، والحكم، وابن أبي ليلى، وحماد بن سليمان، وإسحاق: هو الحلف أن لا يقربها يوما أو أقل أو أكثر، ثم لا يطأها أربعة أشهر، فتبين منه بالإيلاء.
وقال الثوري، وأبو حنيفة: هو الحلف أن لا يطأها أربعة أشهر، وبعد مضيها يسقط الإيلاء، ويكون الطلاق، ولا تسقط قبل المضي إلا بالفيء، وهو الجماع في داخل المدة.
وقال الجمهور: هو الحلف أن لا يطأ أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة أشهر، أو ما دونها، فليس بمول، وكانت يمينا محضا، لو وطء في هذه المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان، وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور.
والظاهر من الآية أن الإيلاء هو الحلف على الامتناع من وطء امرأته مطلقا، غير مقيد بزمان، وظاهر قوله: للذين يؤلون، شمول الحر والعبد، والسكران والسفيه،
(١٩١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 186 187 188 189 190 191 192 193 194 195 196 ... » »»