إليك بشيء منها، لأنه تعالى قد كفاه شرهم. وهذا الإخبار ضمان من الله لرسوله، كفايته ومنعه منهم، ويضمن ذلك إظهاره على أعدائه، وغلبته إياهم، لأن من كان مشاقا لك غاية الشقاق هو مجتهد في أذاك، إذا لم يتوصل إلى ذلك، فإنما ذلك لظهورك عليه وقوة منعتك منه، وهذا نظير قوله تعالى: * (والله يعصمك من الناس) *. وكفاه الله أمرهم بالسبي والقتل في قريظة وبني قينقاع، والنفي في بني النضير، والجزية في نصارى نجران. وعطف الجملة بالفاء مشعر بتعقب الكفاية عقيب شقاقهم، والمجيء بالسين يدل على قرب الاستقبال، إذ السين في وضعها أقرب في التنفيس من سوف، والذوات ليست المكفية، فهو على حذف مضاف، أي فسيكفيك شقاقهم، والمكفى به محذوف، أي بمن يهديه الله من المؤمنين، أو بتفريق كلمة المشاقين، أو بإهلاك أعيانهم وإذلال باقيهم بالسبي والنفي والجزية، كما بيناه.
* (وهو السميع العليم) *، مناسبة هاتين الصفتين: أن كلا من الإيمان وضده مشتمل على أقوال وأفعال، وعلى عقائد ينشأ عنها تلك الأقوال والأفعال، فناسب أن يختتم ذلك بهما، أي وهو السميع لأقوالكم، العليم بنياتكم واعتقادكم. ولما كانت الأقوال هي الظاهرة لنا الدالة على ما في الباطن، قدمت صفة السميع على العليم، ولأن العليم فاصلة أيضا. وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد، لأن المعنى، وهو السميع العليم، فيجازيكم بما يصدر منكم.
* (صبغة الله) *: أي دين الله، قاله ابن عباس وسمي صبغة لظهور أثر الدين على صاحبه، كظهور أثر الصبغ على الثوب، ولأنه يلزمه ولا يفارقه، كالصبغ في الثوب، أو فطرة الله، قاله مجاهد ومقاتل؛ أو خلقة الله، قاله الزجاج وأبو عبيد؛ أو سنة الله، قاله أبو عبيدة؛ أو الإسلام، قاله مجاهد أيضا؛ أو جهة الله يعني القبلة، قاله ابن كيسان؛ أو حجة الله على عباده، قاله الأصم: أو الختان، لأنه يصبغ صاحبه بالدم. والنصارى إذا ولد لهم مولود غمسوه في السابع في ماء يقال له المعمودية، فيتطهر عندهم ويصير نصرانيا. استغنوا به عن الختان، فرد الله عليهم بقوله: * (صبغة الله) *، أو الاغتسال للدخول في الإسلام عوضا عن ماء المعمودية، حكاه الماوردي؛ أو القربة إلى الله، حكاه ابن فارس في المجمل؛ أو التلقين، يقال: فلان يصبغ فلانا في الشيء، أي يدخله فيه ويلزمه إياه، كما يجعل الصبغ لازما للثوب. وهذه أقوال متقاربة، والأقرب منها هو الدين والملة، لأن قبله: * (قولوا ءامنا بالله وما أنزل إلينا) * الآية. وقد تضمنت هذه الآية أصل الدين الحنيفي، فكنى بالصبغة عنه، ومجازه ظهور الأثر، أو ملازمته لمن ينتحله. فهو كالصبغ في هذين الوصفين، كما قال. وكذلك الإيمان، حين تخالط بشاشة القلوب. والعرب تسمي ديانة الشخص لشيء، واتصافه به صبغة. قال بعض شعراء ملوكهم:
* وكل أناس لهم صبغة * وصبغة همدان خير الصبغ * * صبغنا على ذاك أبناءنا * فأكرم بصبغتنا في الصبغ * وقد روي عن ابن عباس أن الأصل في تسمية الدين صبغة: أن عيسى حين قصد يحيى بن زكريا فقال: جئت لأصبغ منك، وأغتسل في نهر الأردن. فلما خرج، نزل عليه روح القدس، فصارت النصارى يفعلون ذلك بأولادهم في كنائسهم، تشبيها بعيسى، ويقولون: الآن صار نصرانيا حقا. وزعموا أن في الإنجيل ذكر عيسى بأنه الصابغ. ويسمون الماء الذي يغمسون فيه أولادهم: المعمودية، بالدال، ويقال: المعمورية بالراء. قال: ويسمون ذلك الفعل التغميس، ومنهم من يسميه الصبغ، فرد الله ذلك بقوله: * (صبغة الله) *. وقال الراغب: الصبغة إشارة إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها عن البهائم، ورشحنا بها لمعرفته ومعرفة طلب الحق، وهو المشار إليه بالفطرة.