الوجه الثاني: أن تكون أم فيه منقطعة، فتقدر ببل والهمزة، التقدير: بل أتقولون، فأضرب عن الجملة السابقة، وانتقل إلى الاستفهام عن هذه الجملة اللاحقة، على سبيل الإنكار أيضا، أي أن نسبة اليهودية والنصرانية لإبراهيم ومن ذكر معه، ليست بصحيحة، بشهادة القول الصدق الذي أتى به الصادق من قوله تعالى: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) *، وبشهادة التوراة والإنجيل على أنهم كانوا على التوحيد والحنيفية، وبشهادة أن اليهودية والنصرانية لمن اقتفى طريقة عيسى، وبأن ما يدعونه من ذلك قول بلا برهان، فهو باطل. وأما قراءة الياء، فالظاهر أن أم فيها منقطعة. وحكى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، عن بعض النحاة: أنها ليست بمنقطعة، لأنك إذا قلت: أتقوم أم يقوم عمرو؟ فالمعنى: أيكون هذا أم هذا؟ وقال ابن عطية: هذا المثال يعني: أتقوم أم يقوم عمرو؟ غير جيد، لأن القائل فيه واحد، والمخاطب واحد، والقول في الآية من اثنين، والمخاطب اثنان غيران، وإنما يتجه معادلة أم للألف على الحكم المعنوي، كان معنى قل أتحاجوننا، أيحاجون يا محمد، أم يقولون؟ انتهى. ومعنى بقوله: لأن القائل فيه واحد، يعني في المثال الذي هو: أيقوم أم يقوم عمرو؟ فالناطق بهاتين الجملتين هو واحد، وقوله والمخاطب واحد، يعني الذي خوطب بهذا الكلام، والمعادلة وقعت بين قيام المواجه بالخطاب وبين قيام عمرو وقوله. والقول في الآية من اثنين، يعني أن أتحاجوننا من قول الرسول، إذ أمر أن يخاطبهم بذلك، وأتقولون بالتاء من قول الله تعالى. وقوله والمخاطب اثنان غيران، أما الأول فقوله أتحاجوننا، وأما الثاني فهو للرسول وأمته الذين خوطبوا بقوله: أم يقولون. وقال الزمخشري: وفيمن قرأ بالياء، لا تكون إلا منقطعة. انتهى. ويمكن الاتصال فيها مع قراءة التاء، ويكون ذلك من الالتفات، إذ صار فيه خروج من خطاب إلى غيبة، والضمير لناس مخصوصين. والأحسن أن تكون أم في القراءتين معا منقطعة، وكأنه أنكر على هم محاجتهم في الله ونسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (قل ياأهل * أهل الكتاب لمن * تحاجون فى إبراهيم) * الآيات. وإذا جعلناها متصلة، كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين، بل إحداهما، وصار السؤال عن تعيين إحداهما، وليس الأمر كذلك، إذ وقعا معا. والقول في أو فيقول: * (هودا أو نصارى) *، قد تقدم في قوله: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) *. وقوله: * (كونوا هودا أو نصارى) *، وأنها للتفضيل، أي قالت اليهود: هم يهود، وقالت النصارى: هم نصارى.
* (قل ءأنتم أعلم أم الله) *: القول في القراى اتت في أأنتم، كهو في قوله: * (أم لم تنذرهم لا) *، وقد توسط هنا المسؤول عنه، وهو أحسن من تقدمه وتأخره، إذ يجوز في العربية أن يقول: أأعلم أنتم أم الله؟ ويجوز: أأنتم أم الله أعلم؟ ولا مشاركة بينهم وبين الله في العلم حتى يسأل: أهم أزيد علما أم الله؟ ولكن ذلك على سبيل التهكم بهم والاستهزاء، وعلى تقدير أن يظن بهم علم، وهذا نظير قول حسان:
فشركما لخيركما الفداء وقد علم أن الذي هو خير كله، هو الرسول عليه السلام، وأن الذي هو شر كله، هو هاجيه. وفي هذا رد على اليهود والنصارى، لأن الله قد أخبر بقوله: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) *، ولأن اليهودية والنصرانية إنما حدثتا بعد إبراهيم، ولأنه أخبر في التوراة والإنجيل أنهم كانوا مسلمين مميزين عن اليهودية والنصرانية. وخرجت هذه الجملة مخرج ما يتردد فيه، لأن اتباع أحبارهم ربما توهموا، أو ظنوا، أن أولئك كانوا هودا أو نصارى لسماعهم ذلك منه، فيكون ذلك ردا من الله عليهم، أو لأن أحبارهم كانوا يعلمون بطلان مقالتهم في إبراهيم ومن ذكر معه، لكنهم كتموا ذلك ونحلوهم إلى ما ذكروا، فنزلوا لكتمهم ذلك منزلة من يتردد في الشيء، ورد