تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٠٠
واختاره الزجاج، وهو معطوف على شيء دل عليه أول الكلام، كأنه قال: فيأبون فيتعلمون. وقال الفراء أيضا: هو عطف على * (يعلمون الناس السحر) *، * (فيتعلمون منهما) *. وأنكره الزجاج بسبب لفظ الجمع في يعلمون، وقد قال منهما. وأجازه أبو علي وغيره، إذ لا يمتنع عطف فيتعلمون على يعلمون، وإن كان التعليم من الملكين خاصة، والضمير في منهما راجع إليهما، لأن قوله: فيتعلمون منهما، إنما جاء بعد ذكر الملكين. وقال سيبويه: هو معطوف على كفروا، قال: وارتفعت فيتعلمون، لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر، فيتعلموا ليجعلا كفره سببا لتعلم غيره، ولكنه على كفروا فيتعلمون. يريد سيبويه: أن فيتعلمون ليس بجواب لقوله: فلا تكفر، فينصب كما نصب * (لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب) *، لأن كفر من نهي أن يكفر في الآية، ليس سببا لتعلم من يتعلم. وكفروا: في موضع فعل مرفوع، فعطف عليه مرفوع، ولا وجه لاعتراض من اعترض في العطف على كفروا، أو على يعلمون، بأن فيه إضمار الملكين. قيل: ذكرهما من أجل أن التقدير: * (ولاكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما) *، لأن قوله: * (فيتعلمون منهما) * إنما جاء بعد ذكر الملكين، كما تقدم. وقد نقل عن سيبويه أن قوله: فيتعلمون، هو على إضمارهم، أي فهم يتعلمون، فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها عطف الجمل، والضمير على هذه الأقوال في فيتعلمون عائد على الناس، ويجوز أن يكون فيتعلمون معطوفا على يعلمان، والضمير الذي في فيتعلمون لأحد، وجمع حملا على منفى، فذلك المنفي هو موجب في المعنى، لأن معناه: إنهما يعلمان كل واحد، إذا قالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر. وذكر الزجاج هذا الوجه. وقال الزجاج أيضا: الأجود أن يكون عطفا على يعلمان فيتعلمون، واستغنى عن ذكر يعلمان، بما في الكلام من الدليل عليه. وقال أبو علي: لا وجه لقول الزجاج استغنى عن ذكر يعلمان، لأنه موجود في النص. انتهى كلام أبي علي، وهو كلام فيه مغالطة، لأن الزجاج لم يرد أن فيتعلمون معطوف على يعلمان، الداخل عليها ما النافية في قوله: ولا ما يعلمان، فيكون يعلمان موجودا في النص، وإنما يريد أن يعلمان مضمرة مثبتة لا منفية. وهذا الذي قدره الزجاج ليس موجودا في النص. وحمل أبا علي على هذه المغالطة حب رده على الزجاج وتخطئته، لأنه كان مولعا بذلك. وللشنآن الجاري بينهما سبب ذكره الناس. انتهى ما وقفنا عليه للناس في هذا العطف، وأكثره كلام المهدوي، لأنه هو الذي أشبع الكلام في ذلك. وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف تقدير: فيأبون فيتعلمون، أو يعلمان فيتعلمون، أي على مثبت، أو يتعلمون خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يتعلمون عطف جملة اسمية على فعلية، أو معطوفا على يعلمون الناس، أو معطوفا على كفروا، أو على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى. فتلك أقوال ستة، أقر بها إلى اللفظ هذا القول الأخير.
* (منهما) *: الضمير في الظاهر عائد على الملكين، أي فيتعلمون من الملكين، سواء قرىء بفتح اللام، أو كسرها. وقيل: يعود على السحر، وعلى الذي أنزل على الملكين، وقيل: عائد على الفتنة والكفر، الذي هو مصدر مفهوم من قوله: * (فلا تكفر) *، وهذا قول أبي مسلم، والتقدير عنده: فيتعلمون من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه. * (ما يفرقون به) *: ما موصولة، وجوز أن تكون نكرة موصوفة، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لأجل عود الضمير عليها. والمصدرية لا يعود عليها ضمير، لأنها حرف في قول الجمهور، والذي يفرق به هو السحر. وعني بالتفريق: تفريق الألفة والمحبة، بحيث تقع الشحناء والبغضاء فيفترقان، أو تفريق الدين، بحيث إذا تعلم فقد كفر وصار مرتدا، فيكون ذلك مفرقا بينهما.
* (بين المرء) *: قراءة الجمهور بفتح الميم وسكون الراء والهمز. وقرأ الحسن والزهري وقتادة: المر بغير همز مخففا. وقرأ ابن أبي إسحاق: المرء بضم الميم والهمزة. وقرأ الأشهب العقيلي: المرء بكسر الميم والهمز، ورويت عن الحسن. وقرأ الزهري أيضا: المر بفتح الميم وإسقاط الهمز وتشديد الراء فأما فتح
(٥٠٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 495 496 497 498 499 500 501 502 503 504 505 ... » »»