تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٩٩
يعلمان السحر وينهيان عنه. والضمير في يعلمان عائد على الملكين، أي وما يعلم الملكان. وكذلك قراءة أبي، أي بإظهار الفاعل لا إضماره. وقيل: عائد على هاروت وماروت، ففي القول الأول يكون عائدا على المبدل منه، وفي الثاني على البدل، ومن زائدة لتأكيد استغراق الجنس، لأن أحدا من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام، فزيدت هنا لتأكيد ذلك، بخلاف قولك: ما قام من رجل، فإنها زيدت لاستغراق الجنس، وشرط زيادتها هنا موجود عند جمهور البصريين، لأنهم شرطوا أن يكون بعدها نكرة، وأن يكون قبلها غير واجب. وقد أمعنا الكلام على زيادة من في (كتاب منهج السالك) من تأليفنا، وأجاز أبو البقاء أن يكون أحد هنا بمعنى واحد، والأول أظهر. * (حتى يقولا * حتى * يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة) *. وقال أبو البقاء: حتى هنا بمعنى إلا أن، وهذا معنى لحتى لا أعلم أحدا من المتقدمين ذكره. وقد ذكره ابن مالك في (التسهيل) وأنشد عليه في غيره:
* ليس العطاء من الفضول سماحة * حتى تجود وما لديك قليل * قال: يريد إلا أن تجود، وما في * (إنما) * كافة، لأن عن العمل، فيصير من حروف الابتداء. وقد أجاز بعض النحويين عمل إن مع وجود ما، نحو: إنما زيدا قائم. * (نحن فتنة) *: أي ابتلاء واختبار.
* (فلا تكفر) *: قال علي رضي الله عنه: كانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء إليه، كأنهما يقولان: لا تفعل كذا، كما لو سأل سائل عن صفة الزنا، أو القتل، فأخبر بصفته ليجتنبه. فكان المعنى في يعلمان: يعلمان. وقال الزمخشري: فلا تكفر: فلا تتعلم، معتقدا أنه حق فتكفر. وحكى المهدوي: أن قولهما * (إنما نحن فتنة) *، فلا تكفر استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله. وقال في (المنتخب) قوله: * (إنما نحن فتنة) * توكيد لقبول الشرع والتمسك به، فكانت طائفة تمثيل وأخرى تخالف. وقيل: فلا تكفر، أي لا تستعمله فيما نهيت عنه، ولكن إذا وقفت عليه فتحرز من أن ينفذ لساحر عليك تمويه. وقيل: فلا تفعله لتعمل به. وهذا على قول من قال: تعلمه جائز والعمل به كفر. وقيل: فلا تكفر بتعليم السحر، وهذا على قول من قال: إن تعلمه كفر. وقيل: فلا تكفر بنا، وهذا على قول: إن الملكين نزلا من السماء بالسحر، وإن من تعلمه في ذلك الوقت كان كافرا، ومن تركه كان مؤمنا، كما جاء في نهر طالوت، وقد تقدم ما حكاه المهدوي إن قولهما: فلا تكفر، على سبيل الاستهزاء، لا على سبيل النصيحة. وقوله: حتى يقولا مطلقا في القول، وأقل ما يتحقق بالمرة الواحدة، فقيل مرة، وقيل سبع مرات، وقيل تسع مرات، وقيل ثلاث. ويحتاج ذلك إلى صحة نقل، وإن لم يوجد، فيكون محتملا، والمتحقق المرة الواحدة. واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما، فقال مجاهد: هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد، ويختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافه واحدة، فيتعلمان منهما ما يفرقان به بين المرء وزوجه. والظاهر أن هاروت وماروت هما اللذان يباشران التعليم لقوله: * (وما يعلمان) *. وقد ذكر المفسرون قصصا فيما يعرض من المحاورة بين الملكين وبين من جاء ليتعلم منهما، وفي كل من ذلك القصص أنهما يأمرانه بأن يبول في تنور. فاختلفوا في الإيمان الذي يخرج منه، أيرى فارسا مقنعا بحديد يخرج منه حتى يغيب في السماء؟ أو نورا خرج من رماد يسطع حتى يدخل السماء؟ أو طائرا خرج من بين ثيابه وطار نحو السماء؟ وفسروا ذلك الخارج بأنه الإيمان. وهذا كله شيء لا يصح البتة، فلذلك لخصنا منه شيئا، وإن كان لا يصح، حتى لا نخلي كتابنا مما ذكروه.
* (فيتعلمون) *: قاله الفراء،
(٤٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 494 495 496 497 498 499 500 501 502 503 504 ... » »»