نزله على قلبك) *، ليس فيه ضمير يعود على من. وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري، وهو خطأ، لما ذكرناه من عدم عود الضمير، ولمضي فعل التنزيل، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء، وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه، التقدير: فعداوته لا وجه لها، أو ما أشبه هذا التقدير. والضمير في فإنه عائد على جبريل، والضمير في نزله عائد على القرآن لدلالة المعنى عليه. ألا ترى إلى قوله: * (مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين) *؟ وهذه كلها من صفات القرآن. ولقوله: * (بإذن الله) *، أي فإن جبريل نزل القرآن على قلبك بإذن الله. وقيل: الضمير في فإنه عائد على الله، وفي نزله عائد على جبريل، التقدير: فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك. وفي كل من هذين التقديرين إضمار يعود على ما يدل عليه سياق المعنى. لكن التقدير الأول أولى، لما ذكرناه، وليكون موافقا لقوله: * (نزل به الروح الامين * على قلبك) *، وينظر للتقدير الثاني قراءة من قرأ: نزل بالتشديد، والروح بالنصب. ومناسبة دليل الجزاء للشرط هو أن من كان عدوا لجبريل، فعداوته لا وجه لها، لأنه هو الذي نزل بالقرآن المصدق للكتب، والهادي والمبشر، كمن آمن. ومن كان هذه المثابة فينبغي أن يحب ويشكر، إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب الله، أو من كان عدوا لجبريل، فسبب عداوته أنه نزل القرآن المصدق لكتابهم، والملزم لهم اتباعك، وهم لا يريدون ذلك، ولذلك حرفوا ما في كتبهم من صفاتك، ومن أخذ العهود عليهم فيها، بأن يتبعوك. والفرق بين كل واحد من هذين التقديرين: أن التقدير الأول موجب لعدم العداوة، والتقدير الثاني كأنه كالعذر لهم في العداوة كقولك: إن عاداك زيد، فقد آذيته وأسأت إليه.
* (على قلبك) *: أتى بلفظ على، لأن القرآن مستعل على القلب، إذ القلب سامع له ومطيع، يمتثل ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه. وكانت أبلع من إلى، لأن إلى تدل على الانتهاء فقط، وعلى تدل على الاستعلاء. وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه. وخص القلب، ولم يأت عليك، لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها، وخزانته التي يحفظ فيها، أو لأنه سلطان الجسد. وفي الحديث: (إن في الجسد مضغة). ثم قال أخيرا: (ألا وهي القلب). أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه، أو لأنه بيت الله، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقا للمحل على الحال به، أو عن الجملة الإنسانية، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن: * (ما أنزلنا عليك القرءان لتشقى) *، * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) *، أو يكون إطلاقا لبعض الشيء على كله، أقوال سبعة. وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب، ولم يضفه إلى ياء المتكلم، وإن كان نظم الكلام يقتضيه ظاهرا، لأن قوله: * (من كان عدوا لجبريل) *، هو معمول لقول مضمر، التقدير: قل يا محمد قال الله من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك. وإلى هذا نحا الزمخشري بقوله: جاءت على حكاية كلام الله تعالى، كأنه قيل: ما تكلمت به من قولي: * (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) *، وكلامه فيه تثبيج. وقال ابن عطية: يحسن في كلام العرب أن يحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول، ويحسن أن يقصد المعنى بقوله، فيسرده مخاطبة له، كما تقول: قل لقومك لا يهينوك، فكذلك هذه الآية، ونحو من هذا قول الفرزدق:
* ألم تر أني يوم جو سويقة * دعوت فنادتني هنيدة ماليا * فأحرز المعنى، ونكب عن نداء هنيدة مالك. انتهى كلامه، وهو تخريج حسن، ويكون إذ ذاك الجملة الشرطية معمولة للفظ: قل، لا لقول: مضمر، وهو ظاهر الكلام * (بإذن الله) *: أي بأمر الله، اختاره في المنتخب ومنه: * (لا تكلم نفس إلا بإذنه) *، * (من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه) *. وقد صرح بذلك في: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) *، أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة، قاله ابن عطية؛ أو باختياره، قاله الماوردي، أو بتيسيره وتسهيله، قاله الزمخشري. * (مصدقا لما بين يديه) *: انتصاب مصدقا على الحال من الضمير المنصوب في نزله، إن كان يعود على القرآن، وإن عاد على جبريل فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون حالا من المجرور المحذوف لفهم المعنى، لأن المعنى: فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقا. والثاني: أن يكون حالا من جبريل. وما: في الموصولة، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله، أو التوراة والإنجيل. والهاء: في بين يديه يحتمل أن تكون عائدة على القرآن، ويحتمل أن تعود على جبريل. فالمعنى مصدقا لما بين يديه من الرسل والكتب.
* (وهدى وبشرى) *: معطوفان على مصدقا، فهما حالان، فيكون من وضع المصدر موضع اسم الفاعل كأنه قال: وهاديا ومبشرا، أو من باب المبالغة، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى، جعل نفس الهدى والبشرى. والألف في بشرى للتأنيث، كهي في رجعي، وهو مصدر. وقد تقدم الكلام على المعنى في قوله: * (وبشر الذين ءامنوا) * في أوائل هذه السورة، والمعنى: أنه وصف القرآن بتصديقه لما تقدمه من الكتب الإلهية، وأنه هدى، إذ فيه بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب والجوارح، وأنه بشرى لمن حصل له الهدى. فصار هذا الترتيب اللفظي في هذه الأحوال، لكون مدلولاتها ترتبت ترتيبا وجوديا. فالأول: كونه مصدقا للكتب، وذلك لأن الكتب كلها من ينبوع واحد. والثاني: أن الهداية حصلت به بعد نزوله على هذه الحال من التصديق. والثالث: أنه بشرى لمن حصلت له به الهداية. وقال الراغب: وهدى من الضلالة وبشرى بالجنة. * (للمؤمنين) *: خص الهدى والبشرى بالمؤمنين، لأن غير المؤمنين لا يكون لهم هدى به ولا بشرى، كما قال: * (وهو عليهم عمى) *، ولأن المؤمنين هم المبشرون، * (فبشر * عبادى) *، * (يبشرهم ربهم برحمة منه) *. ودلت هذه الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة. ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى، قالوا: وهذه الآية تعلقت بها الباطنية، وقالوا: إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول. ورد عليهم: بأنه معجزة ظاهرة بنظمه، وأن الله سماه وحيا وكتابا وعربيا، وأن جبريل نزل به، والملهم لا يحتاج إلى جبريل.
* (من كان عدوا لله) *: العداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقة، وعداوة العبد لله تعالى مجاز، ومعناها: