إذ جاءهم من عند الله بكتابه المصدق لكتابهم، وهو شاهد بالرسول والكتاب، فنبذوه * (وراء ظهورهم) *، وهذا مثل يضرب لمن أعرض عن الشيء جملة. تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه، وقال الفرزدق:
* تميم بن مر لا تكونن حاجتي * بظهر ولا يعيا عليك جوابها * وقالت العرب ذلك، لأن ما جعل وراء الظهر فلا يمكن النظر إليه، ومنه: * (واتخذتموه وراءكم ظهريا) *. وقال في المنتخب: النبذ والطرح والإلقاء متقاربة، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما يئس، والطرح أكثر ما يقال في المبسوط وما يجري مجراه، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين.
* (كأنهم لا يعلمون) *: جملة حالية، وصاحب الحال فريق، والعامل في الحال نبذ، وهو تشبيه لمن يعلم بمن يجهل، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يعتد به، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة. ومتعلق العلم محذوف، أي كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، لا يداخلهم فيه شك لثبوت ذلك عندهم وتحققه، وإنما نبذوه على سبيل المكابرة والعناد. وقال الشعبي: هو بين أيديهم يقرأونه، ولكنهم نبذوا العمل به. وعن سفيان أدرجوه في الديباج والحرير، وحلوه بالذهب، ولم يحلوا حلاله، ولم يحرموا حرامه. انتهى كلامه. وقول الشعبي وسفيان يدل على أن كتاب الله هو التوراة. وقال الماوردي: كأنهم لا يعلمون ما أمروا به من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: معناه كأنهم لا يعلمون أنه نبي صادق. وقيل: معناه كأنهم لا يعلمون أن القرآن والتوراة والإنجيل كتب الله، وأن كل واحد منها حق، والعمل به واجب.
* (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) *، معنى تبعوا: أي اقتدوا به إماما، أو فضلوا، لأن من اتبع شيئا فضله، أو قصد واو الضمير في واتبعوا لليهود، فقال ابن زيد والسدي: يعود على من كان في عهد سليمان. وقال ابن عباس: في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: يعود على جميع اليهود. والجملة من قوله: واتبعوا، معطوفة على جميع الجملة السابقة من قوله: ولما جاءهم إلى آخرها، وهو إخبار عن حالهم في اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبع، وهذا هو الظاهر، لا أنها معطوفة على قوله: نبذه فريق منهم، لأن الاتباع ليس مترتبا على مجيء الرسول، لأنهم كانوا متبعين ذلك قبل مجيء الرسول، بخلاف نبذ كتاب الله، فإنه مترتب على مجيء الرسول. وتتلو: تتبع، قاله ابن عباس، أو تدعي، أو تقرأ، أو تحدث، قاله عطاء، أو تروي، قاله يمان، أو تعمل، أو تكذب، قاله أبو مسلم. وهي أقوال متقاربة. وما موصولة، صلتها تتلو، وهو مضارع في معنى الماضي، أي ما تلت. وقال الكوفيون: المعنى: ما كانت تتلو، لا يريدون أن صلة ما محذوفة، وهي كانت وتتلو، في موضع الخبر، وإنما يريدون أن المضارع وقع موقع الماضي، كما أنك إذا قلت: كان زيد يقوم، هو إخبار بقيام زيد، وهو ماض لدلالة كان عليه. والشياطين: ظاهره أنهم شياطين الجن، لأنه إذا أطلق الشيطان، تبادر الذهن إلى أنه من الجان. وقيل: المراد شياطين الإنس. وقرأ الحسن والضحاك: الشياطون، بالرفع بالواو، هو شاذ، فاسه على قول العرب: بستان فلان حوله بساتون، رواه الأصمعي. قالوا: والصحيح أن هذا الجن فاحش. وقال أبو البقاء: شبه فيه الياء قبل النون بياء جمع الصحيح، وهو قريب من الغلط. وقال السجاوندي: خطأه الخازربجي.
على ملك: متعلق بتتلو، وتلا يتعدى بعلى إذا كان متعلقها يتلى عليه لقوله: يتلى على زيد القرآن، وليس الملك هنا بهذا المعنى، لأنه ليس شخصا يتلى عليه، فلذلك زعم بعض النحويين أن على تكون بمعن في، أي تتلو في ملك سليمان. وقال أصحابنا: لا تكون على في معنى في، بل هذا من التضمين في الفعل ضمن تتقول، فعديت بعلى لأن تقول: تعدى بها، قال تعالى: * (ولو تقول علينا) * ومعنى: * (على ملك سليمان) *، أي شرعه ونبوته وحاله. وقيل: على عهده، وفي زمانه، وهو قريب. وقيل: على كرسي سليمان بعد وفاته، لأنه كان من آلات ملكه. وفسروا ما يتلو الشياطين بالسحر، قالوا: وهو الأشهر والأظهر على ما نقل في أسباب النزول، من أن الشياطين كتبت السحر واختلقته ونسبته إلى سليمان وآصف. وقيل: الذي تلته هو الكذب الذي تضيفه إلى ما تسترق من أخبار السماء، وأضافوا ذلك إلى سليمان تفخيما لشأن ما يتلونه، لأن