تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٥٧
* (لا تعبدون إلا الله) *، على مقام التوحيد، واعتقاد ما يجب له على عباده من الطاعات والخضوع منفردا بذلك، ومالية محضة وهي: الزكاة، وبدنية محضة وهي: الصلاة، وبدنية ومالية وهو: بر الوالدين والإحسان إلى اليتيم والمسكين.
* (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) *: الكلام على: * (تسفكون) *، كالكلام على: * (لا تعبدون) * إلا الله من حيث الإعراب. وقرأ الجمهور: بفتح التاء وسكون السين وكسر الفاء. وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي جمزة؛ كذلك، إلا أنهما ضما الفاء. وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز: بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء المشددة. وقرأ ابن أبي إسحاق: كذلك، إلا أنه سكن السين وخفف الفاء، وظاهر قوله: * (لا تسفكون دماءكم) *، أي لا تفعلون ذلك بأنفسكم لشدة تصيبكم وحنق يلحقكم. وقد جاء في الحديث أمر الذي وضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه. وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه من أهل النار. وصح من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. وتظافرت على تحريم قتل النفس الملل. وقال تعالى: * (ولا تقتلوا أنفسكم) *. وقيل معناه: لا تسفكوا دماء الناس، فإن من سفك دماءهم سفكوا دمه، وقال:
* سقيناهم كأسا سقونا بمثلها * ولكنهم كانوا على الموت أصبرا * وقيل: معناه لا تقتلوا أنفسكم بارتكابكم ما يوجب ذلك، كالارتداد والزنا بعد الإحصان والمحاربة، وقتل النفس بغير حق ونحو ذلك، مما يزيل عصمة الدماء. وقيل: معناه لا يسفك بعضكم دماء بعض، وإليه أشار بقوله: * (لا * لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض) *، وكان أهل دين كنفس واحدة، قاله قتادة، واختاره الزمخشري. قال ابن عطية: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا أن لا يقتل بعضهم بعضا، ولا ينفيه، ولا يسترقه، ولا يدعه يسترق، إلى غير ذلك من الطاعات. والخطاب في أخذنا ميثاقكم لعلماء اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو مع أسلافهم.
* (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) * معناه: لا يخرج بعضكم بعضا، أو لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج من دياركم، أو لا تفعلوا ما تخرجون به أنفسكم من الجنة التي هي داركم، أو لا تخرجون أنفسكم، أي إخوانكم، لأنكم كنفس واحدة، أو لا تفسدوا، فيكون سببا لإخراجكم من دياركم، كأنه يشير إلى تغريب الجاني، أو لا تفسدوا وتشاقوا الأنبياء والمؤمنين، فيكتب عليكم الجلاء. أقوال ستة. ثم أقررتم: أي بالميثاق، واعترفتم بلزومه، أو اعترفتم بقبوله، أو رضيتم به، كما قال البعيث:
* ولست كليبيا إذا سيم خطة * أقر كإقرار الحليلة للبعل * * (وأنتم تشهدون) *: أي تعلمون أن الله أخذه عليكم، وأراد على قدماء بني إسرائيل، إن كان الخطاب واردا عليهم، وإن كان على معاصريه / صلى الله عليه وسلم) من أبنائهم، فمعناه: وأنتم تشهدون على أسلافكم بما أخذه الله عليهم من العهد، إما بالنقل المتواتر، وإما بما تتلونه من التوراة. وإن كان معنى الشهادة الحضور، فيتعين أن يكون الخطاب لأسلافهم. وقال بعض المفسرين: ثم أقررتم عائد إلى الخلف، وأنتم تشهدون عائد إلى السلف؟ لأنهم عاينوا سفك دماء بعضهم بعضا. وقال: وأنتم تشهدون لأن الأوائل والأصاغر صاروا كالشئ الواحد، فلذلك أطلق عليهم خطاب الحضرة
(٤٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 452 453 454 455 456 457 458 459 460 461 462 ... » »»