تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٣٢
والتحميد والتقديس والتأويب والتصدع، وكل هذه صفات لا تصدر إلا عن أهل التمييز والمعرفة. قال تعالى: * (لو أنزلنا هاذا القرءان على جبل) * الآية، * (وإن من شىء إلا يسبح بحمده) *، * (فضلا ياجبال أوبى معه والطير) *، وفي الحديث الصحيح: (إني لأعرف حجرا كان يسلم علي قبل أن أبعث وأنه بعد مبعثه ما مر بحجر ولا مدر إلا سلم عليه، وفي الحجر الأسود إنه يشهد لمن يستلمه). وفي حديث الحجر الذي فر بثوب موسى عليه السلام وصار يعدو خلفه ويقول: (ثوبي حجر ثوبي حجر). وفي الحديث عن أحد: (أن هذا جبل يحبنا ونحبه). وفي حديث حراء: (لما اهتز أسكن حراء). وفي حديث: (تسبيح صغار الحصى بكف رسول الله صلى الله عليه وسلم)). وقد دلت هذه الجملة وأحاديث أخر على نطق الحيوانات والجمادات، وانقياد الشجر وغير ذلك. فلولا أنه تعالى أودع فيها قوة مميزة، وصفة ناطقة، وحركة اختيارية، لما صدر عنها شيء من ذلك، ولا حسن وصفها به. وإلى هذا ذهب مجاهد وابن جريج وجماعة. وقال قوم: الخشية هنا حقيقة، وهو مصدر أضيف إلى فاعل. والمراد بالحجر الذي يهبط من خشية الله هو البرد، والمراد بخشية الله: إخافته عباده، فأطلق الخشية، وهو يريد الإخشاء، أي نزول البرد به، يخوف الله عباده، ويزجرهم عن الكفر والمعاصي. وهذا قول متكلف، وهو مخالف للظاهر. والبرد ليس بحجارة، وإن كان قد اشتد عند النزول، فهو ماء في الحقيقة. وقال قوم: الخشية هنا حقيقة، وهو مصدر مضاف للمفعول، وفاعله محذوف، وهو العباد. والمعنى: أن من الحجارة ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزلة من خشية عباد الله إياه.
وتحقيقه: أنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى، صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط، فكان المعنى: لما يهبط من أجل أن يحصل لعباد الله تعالى. وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة، وأن الضمير في قوله: * (وإن منها لما يهبط من خشية الله) * عائد على القلوب، والمعنى: أن من القلوب قلوبا تطمئن وتسكن، وترجع إلى الله تعالى، فكنى بالهبوط عن هذا المعنى، ويريد بذلك قلوب المخلصين. وهذا تأويل بعيد جدا، لأنه بدأ بقوله: * (وإن من الحجارة) *، ثم قال: * (وإن منها) *، فظاهر الكلام التقسيم للحجارة، ولا يعدل عن الظاهر إلا بدليل واضح، والهبوط لا يليق بالقلوب، إنما يليق بالحجارة. وليس تأويل الهبوط بأولى من تأويل الخشية إن تأولناها. وقد أمكن في الوجوه التي تضمنت حملها على الحقيقة، وإن كان بعض تلك الأقوال أقوى من بعض. وذهب بعضهم إلى أن الذي يهبط من خشية الله هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، إذ جعله دكا. وذهب قوم إلى أن الخشية هنا مجاز من مجاز الاستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى: * (يريد أن ينقض) *، وكما قال زيد الخيل:
* بجمع تضل البلق في حجراته * ترى الاكم منه سجدا للحوافر * وكما قال الآخر:
* لما أتى خبر الزبير تضعضعت * سور المدينة والجبال الخشع *
(٤٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 427 428 429 430 431 432 433 434 435 436 437 ... » »»