تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٢٣
الذي تضافرت عليه أقاويل أكثر المفسرين، وذكروا في ذلك اختلافا وقصصا كثيرا مضطربا أضربنا عن نقله صفحا كعادتنا في أكثر القصص الذي ينقلونه، إذ لا ينبغي أن ينقل من ذلك إلا ما صح عن الله تعالى، أو عن رسوله في قرآن أو سنة.
* (وما كادوا يفعلون) *: كنى عن الذبح بالفعل، لأن الفعل يكنى به عن كل فعل. وكاد في الثبوت تدل على المقاربة. فإذا قلت: كاد زيد يقوم، فمعناه نفي المقاربة، فهي كغيرها من الأفعال وجوبا ونفيا. وقد ذهب بعض الناس إلى أنها إذا أثبتت، دلت على نفي الخبر، وإذا نفيت، دلت على إثبات الخبر، مستدلا بهذه الآية، لأن قوله تعالى: * (فذبحوها) * يدل على ذلك، والصحيح القول الأول. وأما الآية، فقد اختلف زمان نفي المقاربة والذبح، إذ المعنى: وما قاربوا ذبحها قبل ذلك، أي وقع الذبح بعد أن نفى مقاربته. فالمعنى أنهم تعسروا في ذبحها، ثم ذبحوها بعد ذلك. قيل: والسبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون هو: إما غلاء ثمنها، وإما خوف فضيحة القاتل، وإما قلة انقياد وتعنت على الأنبياء على ما عهد منهم. واختلفوا في هذه البقرة المذبوحة: أهي التي أمروا أولا بذبحها، وأنها معينة في الأمر الأول، وأنه لو وقع الذبح عليها أولا لما وقع إلا على هذه المعينة؟ أم المأمور بها أولا هي بقرة غير مخصوصة، ثم انقلبت مخصوصة بلون وصفات، فذبحوا المخصوصة؟ فكان الأمر الأول مخصوصا لانتقال الحكم من البقرة المطلقة إلى البقرة المخصوصة، ويجوز النسخ قبل الفعل على أن هذه البقرة المخصوصة يتناولها الأمر بذبح بقرة، فلو وقع الذبح عليها بالخطاب الأول، لكانوا ممتثلين، فكذلك بعد التخصيص. ثم اختلف القائلون بهذا الثاني: هل الواجب كونها بالصفة الأخيرة فقط، وهي كونها لا ذلول إلى آخره؟ أم ينضاف إلى هذه الأوصاف في جواب السؤالين قبل، فيجب أن يكون مع الوصف الأخير لا فارض ولا بكر، وصفراء فاقع لونها؟ والذي نختاره هذا الثاني، لأن الظاهر اشتراك هذه الأوصاف، لأن قوله: ما هي، وما لونها، وما هي، يدل على ذلك، وهذا هو الذي اشتهر في الإخبار أنها كانت بهذه الأوصاف جميعا، وإذا كان البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة، كان ذلك تكليفا بعد تكليف، وذلك يدل على نسخ التسهيل بالأشق، وعلى جواز النسخ قبل الفعل.
* (وإذ قتلتم نفسا) *: معطوف على قوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه) *. ويجوز أن يكون ترتيب وجودهما ونزولهما على حسب تلاوتهما، فيكون الله تعالى قد أمرهم بذبح البقرة، فذبحوها وهم لا يعلمون بما له تعالى فيها من السر، ثم وقع بعد ذلك أمر القتيل، فأظهر لهم ما كان أخفاه عنهم من الحكمة بقوله: اضربوه ببعضها، ولا شيء يضطرنا إلى اعتقاد تقدم قتل القتيل. ثم سألوا عن تعيين قاتله، إذ كانوا قد اختلفوا في ذلك، فأمرهم الله تعالى بذبح بقرة، فيكون الأمر بالذبح متقدما في النزول، والتلاوة متأخرا في الوجود، ويكون قتل القتيل متأخرا في النزول، والتلاوة متقدما في الوجود، ولا إلى اعتقاد كون الأمر بالذبح وما بعده مؤخرا في النزول، متقدما في التلاوة، والإخبار عن قتلهم مقدما في النزول، متأخرا في التلاوة، دون تعرض لزمان وجود القصتين. وإنما حمل من حمل على خلاف الظاهر، اعتبار ما رووا من القصص الذي لا يصح، إذ لم يرد به كتاب ولا سنة، ومتى أمكن حمل الشيء على ظاهره كان أولى، إذ العدول عن الظاهر إلى غير الظاهر، إنما يكون لمرجح، ولا مرجح، بل تظهر الحكمة البالغة في تكليفهم أولا ذبح بقرة. هل يمتثلون ذلك أم لا؟ وامتثال التكاليف التي لا يظهر فيها ببادىء الرأي حكمة أعظم من امتثال ما تظهر فيه حكمة، لأنها طواعية صرف، وعبودية محضة، واستسلام خالص، بخلاف ما تظهر له حكمة، فإن في العقل داعية إلى امتثاله، وحضا على العمل به.
وقال صاحب المنتخب: إن وقوع ذلك القتيل لا بد أن يكون متقدما لأمره تعالى بالذبح، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتيل، وعن أنه لا بد أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة، فلا يجب أن يكون متقدما على الإخبار عن قصة البقرة. فقول من يقول: هذه القصة يجب أن تكون متقدمة على الأولى خطأ، لأن هذه القص في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود. فأما التقديم في الذكر فغير واجب، لأنه تارة يقدم ذكر السبب على ذكر الحكم، وأخرى على العكس من ذلك، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم بذبح البقرة، فلما ذبحوها قال: * (وإذ قتلتم نفسا) * من قبل واختلفتم فإني مظهر لكم القاتل الذي
(٤٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 418 419 420 421 422 423 424 425 426 427 428 ... » »»