تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٥٩
تقتضي الذهاب، فيكون عائدا على غير مذكور، بل على ما يفهم من سياق الكلام، نحو قوله تعالى: * (حتى توارت بالحجاب) *، * (فأثرن به نقعا) * أي توارت الشمس، إذ يدل عليها قوله: بالعشي، وأي فأثرن بالمكان، إذ يدل عليه * (والعاديات) * * (فالموريات) *، * (فالمغيرات) *، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا في مكان فاقتضته ودلت عليه. وقيل: الضمير يعود على الانجاء، أي من بعد الانجاء، وقيل: على الهدى، أي من بعد الهدى، وكلا هذين القولين ضعيف.
* (وأنتم ظالمون) *: جملة حالية، ومتعلق الظلم. قيل: ظالمون بوضع العبادة في غير موضعها، وقيل: بتعاطي أسباب هلاكها، وقيل: برضاكم فعل السامري في اتخاذه العجل، ولم تنكروا عليه. ويحتمل أن تكون الجملة غير حال، بل إخبار من الله إنهم ظالمون: أي سجيتهم الظلم، وهو وضع الأشياء في غير محلها. وكان المعنى: ثم اتخذتم العجل من بعده وكنتم ظالمين، كقوله تعالى: * (اتخذوه وكانوا ظالمين) *. وأبرز هذه الجملة في صورة ابتداء وخبر، لأنها أبلغ وآكد من الجملة الفعلية ولموافقة الفواصل. وظاهر قوله: ثم اتخذتم العموم، وأنهم كلهم عبدوا العجل إلا هارون، وقيل: الذين عكفوا على عبادته من قوم موسى ثمانية آلاف رجل، وقيل: كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفا، قيل: وهذا هو الصحيح، وقيل: إلا هارون والسبعين رجلا الذين كانوا مع موسى. واتخاذ السامري العجل دون سائر الحيوانات، قيل: لأنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم وكانت على صور البقر، فقالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فهجس في نفس السامري أن يفتنهم من هذه الجهة، فاتخذ لهم العجل، وقيل: إنه كان من قوم يعبدون البقر، وكان منافقا يظهر الإيمان بموسى، فاتخذ عجلا من جنس ما كان يعبده، وفي اتخاذهم العجل إلها دليل على أنهم كانوا مجسمة أو حلولية، إذ من اعتقد تنزيه الله عن ذلك واستحالة ذلك عليه بالضرورة، تبين له بأول وهلة فساد دعوى أن العجل إله. وقد نقل المفسرون عن ابن عباس والسدي وغيرهما قصصا كثيرا مختلفا في سبب اتخاذ العجل، وكيفية اتخاذه، وانجر مع ذلك أخبار كثيرة، الله أعلم بصحتها، إذ لم يشهد بصحتها كتاب ولا حديث صحيح، فتركنا نقل ذلك على عادتنا في هذا الكتاب.
* (ثم عفونا عنكم) *: تقدمت معاني عفا، ويحتمل أن يكون عفا عنه من باب المحو والإذهاب، أو من باب الترك، أو من باب السهولة، والعفو والصفح متقاربان في المعنى. وقال قوم: لا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب، فإن كان العفو هنا بمعنى الترك أو التسهيل، فيكون عنكم عام اللفظ خاص المعنى، لأن العفو إنما كان عمن بقي منهم، وإن كان بمعنى المحو، كان عاما لفظا ومعنى، فإنه تعالى تاب على من قتل، وعلى من بقي، قال تعالى: * (فاقتلوا أنفسكم ذالكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم) *. وروي أن الله أوحى إلى موسى بعد قتلهم أنفسهم أني قبلت توبتهم فمن قتل فهو شهيد، ومن لم يقتل فقد تبت عليه وغفرت له. وقالت المعتزلة: عفونا عنكم، أي بسبب إتيانكم بالتوبة، وهي قتل بعضهم بعضا: * (من بعد ذالك) * إشارة إلى اتخاذ العجل، وقيل: إلى قتلهم أنفسهم، والأول أظهر. * (لعلكم) *: تقدم الكلام في لعل في قوله: * (لعلكم تتقون) *، لغة ودلالة معنى بالنسبة إلى الله تعالى، فأغنى عن إعادته. * (تشكرون) *: أي تثنون عليه تعالى بإسدائه نعمه إليكم، وتظهرن النعمة بالثناء، وقالوا: الشكر باللسان، وهو الحديث بنعمة المنعم، والثناء عليه بذلك وبالقلب، وهو اعتقاد حق المنعم على المنعم عليه، وبالعمل * (اعملوا ءال * داوود * شاكرا) *، وبالله أي شكرا لله بالله لأنه لا يشكره حق شكره إلا هو، وقال بعضهم:
* وشكر ذوي الإحسان بالقول تارة * وبالقلب أخرى ثم بالعمل الأسنى * * وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي * ولا بلساني بل به شكره عنا * ومعنى لعلكم تشكرون: أي عفو الله عنكم، لأن العفو يقتضي الشكر، قاله الجمهور، أو تظهرون نعمة الله عليكم في العفو، أو تعترفون بنعمتي، أو تديمون طاعتي، أو تقرون بعجزكم عن شكري أربعة أقوال: وقال ابن
(٣٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 354 355 356 357 358 359 360 361 362 363 364 ... » »»