تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٥٨
وكان تفسير الأربعين بليلة دون يوم، لأن أول الشهر ليلة الهلال، ولهذا أرخ بالليالي، واعتماد العرب على الأهلة، فصارت الأيام تبعا لليالي، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل * (وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار) *، أو دلالة على مواصلته الصوم ليلا ونهارا، لأنه لو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها. وهذه المواعدة للتكلم، أو لإنزال التوراة. قال المهدوي: وكان ذلك بعد أن جاوز البحر، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله، فخرج إلى الطور في سبعين رجلا من خيار بني إسرائيل، وصعد الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة، فقعدوا فيما ذكره المفسرون عشرين يوما وعشرة ليال، فقالوا: قد أخلفنا موعده، انتهى كلامه. وقال الزمخشري: لما دخل بنو إسرائيل مصر، بعد هلاك فرعون، ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد الله أن ينزل عليهم التوراة، وضرب له ميقاتا، انتهى.
* (ثم اتخذتم العجل) *: الجمهور على إدغام الذال في التاء. وقرأ ابن كثير وحفص من السبعة: بالإظهار، ويحتمل اتخذ هنا أن تكون متعدية لواحد، أي صنعتم عجلا، كما قال: * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار) *، على أحد التأويلين، وعلى هذا التقدير: يكون ثم جملة محذوفة يدل عليها المعنى، وتقديرها: وعبدتموه إلها، ويحتمل أن تكون مما تعدت إلى اثنين فيكون المفعول الثاني محذوفا لدلالة المعنى، التقدير: ثم اتخذتم العجل إلها، والأرجح القول الأول، إذ لو كان مما يتعدى في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني، ولو في موضع واحد، ألا ترى أنه لم يعد إلى اثنين بل إلى واحد في هذا الموضع، وفي: * (اتخذ * قوم موسى) *، وفي: * (اتخذوه وكانوا ظالمين) *، وفي: * (إن الذين اتخذوا العجل) *، وفي قوله في هذه السورة أيضا: * (إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) *، لكنه يرجح القول الثاني لاستلزام القول الأول حذف جملة من هذه الآيات، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول، وحذف المفرد أسهل من حذف الجملة. فعلى القول الأول فيه ذم الجماعة بفعل الواحد، لأن الذي عمل العجل هو السامري، وسيأتي، إن شاء الله، الكلام فيه وفي اسمه وحكاية إضلاله عند قوله تعالى: * (وأضلهم السامرى) *، وذلك عادة العرب في لاكمها تذم وتمدح القبيلة بما صدر عن بعضها. وعلى القول الثاني فيه ذمهم بما صدر منهم، والألف واللام في العجل على القول الأول لتعريف الماهية، إذ لم يتقدم عهد فيه، وعلى القول الثاني للعهد السابق، إذ كانوا قد صنعوا عجلا ثم اتخذوا ذلك العجل إلها، وكونه عجلا ظاهر في أنه صار لحما ودما، فيكون عجلا حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه حقيقة، قاله الحسن. وقيل: هو مجاز، أي عجلا في الصورة والشكل، لأن السامري صاغه على شكل العجل، وكان فيما ذكروا صائغا، ويكون نسبة الخوار إليه مجازا، قاله الجمهور، وسيأتي الكلام على ذلك في الأعراف، إن شاء الله. ومن أغرب ما ذهب إليه في هذا العجل أنه سمي عجلا لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى، فاتخذوه إلها، قاله أبو العالية، أو سمى هذا عجلا، لقصر مدته.
* (من بعده) *، من: تفيد ابتداء الغاية، ويتعارض مدلولها مع مدلول ثم، لأن ثم تقتضي وقوع الاتخاذ بعد مهلة من المواعدة، ومن تقتضي ابتداء الغاية في التعدية التي تلي المواعدة، إذا الظاهر عود الضمير على موسى، ولا تتصور التعدية في الذات، فلا بد من حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه لفظ واعدنا، أي من بعد مواعدته، فلا بد من ارتكاب المجاز في أحد الحرفين، إلا أن قدر محذوف غير المواعدة، وهو أن يكون التقدير من بعد ذهابه إلى الطور، فيزول التعارض، إذ المهلة تكون بين المواعدة والاتخاذ. ويبين المهلة قصة الأعراف، إذ بين المواعدة والاتخاذ هناك جمل كثيرة، وابتداء الغاية يكون عقيب الذهاب إلى الطور، فلم تتوارد المهلة والابتداء على شيء واحد، فزال التعارض. وقيل: الضمير في بعده يعود على الذهاب، أي من بعد الذهاب، ودل على ذلك أن المواعدة
(٣٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 353 354 355 356 357 358 359 360 361 362 363 ... » »»