هذه الوجوه ذكروها. وقدم الصبر على الصلاة، قيل: لأن تأثير الصبر في إزالة ما لا ينبغي، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي، والنفي مقدم على الإثبات، ويظهر أنه قدم الاستعانة به على الاستعانة بالصلاة، لأنه سبق ذكر تكاليف عظيمة شاق فراقها على من ألفها واعتادها من ذكر ما نسوه والإيفاء بما أخلفوه والإيمان بكتاب متجدد وترك أخذهم الرشا على آيات الله وتركهم إلباس الحق بالباطل وكتم الحق الذي لهم بذلك الرياسة في الدنيا والاستتباع لعوامهم وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهذه أمور عظيمة، فكانت البداءة بالصبر لذلك. ولما كان عمود الإسلام هو الصلاة، وبها يتميز المسلم من الشرك، أتبع الصبر بها، إذ يحصل بها الاشتغال عن الدنيا، وبالتلاوة فيها الوقوف على ما تضمنه كتاب الله من الوعد والوعيد، والمواعظ والآداب، ومصير الخلق إلى دار الجزاء، فيرغب المشتغل بها في الآخرة، ويرغب عن الدنيا. وناهيك من عبادة تتكرر على الإنسان في اليوم والليل خمس مرات، يناجي فيها ربه ويستغفر ذنبه. وبهذا الذي ذكرناه تظهر الحكمة في أن أمروا بالاستعانة بالصبر والصلاة. ويبعد دعوى من قال: إنه خطاب للمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال: لأن من ينكره لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة. قال: ولا يبعد أن يكون الخطاب أولا لبني إسرائيل، ثم يقع بعد الخطاب للمؤمنين، والذي يظهر أن ذلك كله خطاب لبني إسرائيل، لأن صرف الخطاب إلى غيرهم لغير موجب، ثم يخرج عن نظم الفصاحة.
* (وإنها لكبيرة) *: الضمير عائد على الصلاة. هذا ظاهر الكلام، وهو القاعدة في علم العربية: أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل، وقيل: يعود على الاستعانة، وهو المصدر المفهوم من قوله: * (واستعينوا) *، فيكون مثل * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) *، أي العدل أقرب، قاله البجلي. وقيل: يعود على إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه، قاله الأخفش. وقيل: على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة. وقيل: يعود على الكعبة، لأن الأمر بالصلاة إليها. وقيل: يعود على جميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها، من قوله: * (اذكروا نعمتي) * إلى * (واستعينوا) *. وقيل: المعنى على التثنية، واكتفى بعوده على أحدهما، فكأنه قال: وإنهما كقوله: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) * في بعض التأويلات، وكقوله: * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) *، وقول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا فهذه سبعة أقوال فيما يعود الضمير عليه، وأظهرها ما بدأنا به أولا، قال مؤرج في عود الضمير: لأن الصلاة أهم وأغلب، كقوله تعالى: * (انفضوا إليها) *، انتهى. يعني أن ميل أولئك الذين انصرفوا في الجمعة إلى التجارة أهم وأغلب من ميلهم إلى اللهو، فلذلك كان عود الضمير عليها، وليس يعني أن الضميرين سواء في العود، لأن العطف بالواو يخالف العطف بأو، فالأصل في العطف بالواو مطابقة الضمير لما قبله في تثنية وجمع، وأما العطف بأو فلا يعود الضمير فيه إلا على أحد ما سبق. ومعنى كبر الصلاة: ثقلها وصعوبتها على من يفعلها مثل قوله تعالى: * (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) *، أي شق ذلك وثقل.
* (إلا على الخاشعين) *: استثناء مفرغ، لأن المعنى: وإنها لكبيرة على كل أحد إلا على الخاشعين، وهم المتواضعون المستكينون، وإنما لم تشق على الخاشعين، لأنها منطوية على أوصاف هم متحلون بها لخشوعهم من القيام لله والركوع له والسجود له والرجاء لما عنده من الثواب. فلما كان مآل أعمالهم إلى السعادة الأبدية، سهل عليهم ما صعب على غيرهم من المنافقين والمرائين بأعمالهم الذين لا يرجون لها نفعا. ويجوز في * (الذين) * الاتباع والقطع إلى الرفع أو النصب، وذلك صفة مدح، فالقطع أولى بها. و * (يظنون) * معناه: يوقنون، قاله