تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٤٠
تعقلون: أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية بكم، أو أفلا تفهمون قبح ما تأتون من معصية ربكم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم) والإيمان به، أو أفلا تنتهون، لأن العقل ينهى عن القبيح، أو أفلا ترجعون، لأن العقل يراد إلى الأحسن، أو أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه، أو إن وبال ذلك عليكم راجع، أو أفلا تمتنعون من المعاصي، أو أفلا تعقلون، إذ ليس في قضية العقل أن تأمر بالمعروف ولا تأتيه، أو أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقل، لأن العقول تأباه وتدفعه. وشبيه بهذه الآية * (لم تقولون ما لا تفعلون) * الآية. والمقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الإرشاد إلى المنفعة والتحذير عن المفسدة، وذلك معلوم بشواهد العقل، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل، ويصير ذلك الوعظ سببا للرغبة في المعصية، لأنه يقال: لولا اطلاع الواعظ على أن لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المعصية، فتكون النفس نافرة عن قبول وعظ من لم يتعظ، وأنشدوا:
* مواعظ الواعظ لن تقبلا * حتى يعيها قلبه أولا * وقال علي كرم الله وجهه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك. ولا دليل في الآية لمن استدل بها على أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا في قوله تعالى: * (لم تقولون ما لا تفعلون) *، ولا للمعتزلة في أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى، قالوا: التوبيخ لا يحسن إلا إذا كانوا فاعلي أفعالهم، وهذه مسألة مشكلة يبحث فيها في علم الكلام. وهذا الإنكار والتوبيخ والتقريع، وإن كان خطابا لبني إسرائيل، فهو عام من حيث المعنى. وعن محمد بن واسع: بلغني أن ناسا من أهل الجنة أطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة، قالوا: كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها.
* (واستعينوا بالصبر والصلواة) *: تقدم ذكر معاني استفعل عند ذكر المادة في قوله تعالى: * (وإياك نستعين) *، وأن من تلك المعاني الطلب، وأن استعان معناه طلب المعونة، وظاهر الصبر أنه يراد به ما يقع عليه في اللغة. وقال مجاهد: الصبر: الصوم، والصوم: صبر، لأنه إمساك عن الطعام، وسمي رمضان: شهر الصبر. والصلاة: هي المفروضة مع ما يتبعها من السنن والنوافل، قاله مجاهد. وقيل: الصلاة الدعاء وقد أضمروا للصبر صلة تقيده، فقيل: بالصبر على ما تكرهه نفوسكم من الطاعة والعمل، أو على أداء الفرائض، روي ذلك عن ابن عباس، أو عن المعاصي، أو على ترك الرياسة، أو على الطاعات وعن الشهوات، أو على حوائجكم إلى الله، أو على الصلاة. ولما قدر هذا التقدير، أعني بالصبر على الصلاة، توهم بعض من تكلم على القرآن، أن الواو التي في الصلاة هنا بمعنى على، وإنما يريد قائل هذا: أنهم أمروا بالاستعانة بالصبر على الصلاة وبالصلاة، لأن الواو بمعنى على، ويكون ينظر إلى قوله: * (وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها) * وأمروا بالاستعانة بالصلاة، لأنه يتلى فيها ما يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا، أو لما فيها من تمحيص الذنوب وترقيق القلوب، أو لما فيها من إزالة الهموم، ومنه الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة). وقد روي أن ابن عباس نعى إليه قثم أخوه، فقام يصلي، وتلا: * (واستعينوا بالصبر والصلواة) *، أو لما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، وكل
(٣٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 335 336 337 338 339 340 341 342 343 344 345 ... » »»