فيقبح في العقول أن يأمر الإنسان بخير وهو لا يأتيه، وأن ينهى عن سوء وهو يفعله. وفي تفسير البر هنا أقوال: الثبات على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهم لا يتبعونه، أو اتباع التوراة وهم يخالفونها في جحدهم صفته. وروي عن قتادة وابن جريج والسدي: أو على الصدقة ويبخلون، أو على الصدق وهم لا يصدقون، أو خص أصحابهم على الصلاة والزكاة ولا يأتونهما. وقال السلمي: أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم قلوبكم خالية عن ظواهر رسومها؟ وقال القشيري: أتحرضون الناس على البدار وترضون بالتخلف؟ وقال: أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنا؟ وألفاظا من هذا المعنى. وأتى بالمضارع في: أتأمرون، وإن كان قد وقع ذلك منهم لأنه يفهم منه في الاستعمال في كثير من المواضع: الديمومة وكثرة التلبس بالفعل، نحو قولهم: زيد يعطي ويمنع، وعبر عن ترك فعلهم بالنسيان مبالغة في الترك، فكأنه لا يجري لهم على بال، وعلق النسيان بالأنفس توكيدا للمبالغة في الغفلة المفرطة.
* (وتنسون) *: معطوف على تأمرون، والمنعي عليهم جمعهم بين هاتين الحالتين من أمر الناس بالبر الذي في فعله النجاة الأبدية، وترك فعله حتى صار نسيا منسيا بالنسبة إليهم. * (أنفسكم) *، والأنفس هنا: ذواتهم، وقيل: جماعتهم وأهل ملتهم، ثم قيد وقوع ذلك منهم بقوله: * (وأنتم تتلون الكتاب) *: أي أنكم مباشروا الكتاب وقارئوه، وعالمون بما انطوى عليه، فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم؟ وخالفتموه بالنسبة إلى أنفسكم؟ كقوله تعالى: * (وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) *. والجملة حالية ولا يخفى ما في تصديرها بقوله: * (وأنتم) *، من التبكيت لهم والتقريع والتوبيخ لأجل المخاطبة بخلافها لو كانت اسما مفردا. والكتاب هنا: التوراة والإنجيل، وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم، وهذا قول الجمهور. وقيل: الكتاب هنا القرآن، قالوا: ويكون قد انصرف من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب المؤمنين، ويكون ذلك من تلوين الخطاب، مثل قوله تعالى: * (يوسف أعرض عن هاذا واستغفرى لذنبك) *، وفي هذا القول بعد، إذ الظاهر أن هذا كله خطاب مع أهل الكتاب.
* (أفلا تعقلون) *: مذهب سيبويه والنحويين: أن أصل الكلام كان تقديم حرف العطف على الهمزة في مثل هذا ومثل * (أو لم * يسيروا) * أثم إذا ما وقع، لكن لما كانت الهمزة لها صدر الكلام، قدمت على حرف العطف، وذلك بخلاف هل. وزعم الزمخشري أن الواو والفاء وثم بعد الهمزة واقعة موقعها، ولا تقديم ولا تأخير، ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها، وكأنه رأى أن الحذف أولى من التقديم والتأخير. وقد رجع عن هذا القول في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة، وقد تكلمنا على هذه المسألة في شرحنا لكتاب التسهيل. فعلى قول الجماعة يكون التقدير: فألا تعقلون، وعلى قول الزمخشري يكون التقدير: أتعقلون فلا تعقلون، أمكثوا فلم يسيروا في الأرض، أو ما كان شبه هذا الفعل مما يصح أن يعطف عليه الجملة التي بعد حرف العطف، ونبههم بقوله: * (أفلا تعقلون) *، على ن فيهم إدراكا شريفا يمنعهم من قبيح ما ارتكبوه من أمر غيرهم بالخير ونسيان أنفسهم عنه، وإن هذه حالة من سلب العقل، إذ العاقل ساع في تحصيل ما فيه نجاته وخلاصه أولا، ثم يسعى بعد ذلك في خلاص غيره، إبدأ بنفسك ثم بمن تعول. ومركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل لنفسه مصلحة، فكيف يحصلها لغيره؟ ألا ترى إلى قول الشاعر:
* إذا المرء لم يخزن عليه لسانه * فليس على شيء سواه بخزان * فإذا صدر من الإنسان تحصيل المصلحة لغيره، ومنع ذلك لنفسه، كان ذلك خارجا عن أفعال العقلاء، خصوصا في الأمور التي يرجى بسلوكها النجاة من عذاب الله، والفوز بالنعيم السرمدي. وقد فسروا قوله: * (أفلا تعقلون) * بأقوال: أفلا