وذلك أنه تعالى أمرهم أولا بذكر النعمة التي أنعمها عليهم، إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب إطاعته، ثم أمرهم بإيفاء العهد الذي التزموه للمنعم، ثم رغبهم بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم في الإيفاء بالعهد، ثم أمرهم بالخوف من نقماته إن لم يوفوا، فاكتنف الأمر بالإيفاء أمر بذكر النعمة والإحسان، وأمر بالخوف من العصيان، ثم أعقب ذلك بالأمر بإيمان خاص، وهو ما أنزل من القرآن، ورغب في ذلك بأنه مصدق لما معهم، فليس أمرا مخالفا لما في أيديهم، لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال إلى المخالف. ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس، ثم أمرهم تعالى باتقائه، ثم أعقب ذلك بالنهي عن لبس الحق بالباطل، وعن كتمان الحق، فكان الأمر بالإيمان أمرا بترك الضلال، والنهي عن لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق تركا للإضلال. ولما كان الضلال ناشئا عن أمرين: إما تمويه الباطل حقا إن كانت الدلائل قد بلغت المستتبع، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه، أشار إلى الأمرين بلا تلبسوا وتكتموا، ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم، ثم أمرهم بعد تحصيل الإيمان وإظهار الحق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، إذ الصلاة آكد العبادات البدنية، والزكاة آكد العبادات المالية. ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له تعالى مع جملة الخاضعين الطائعين.
فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم، وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية. وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله على سائر الكلام، وهذه الأوامر والنواهي، وإن كانت خاصة في الصورة ببني إسرائيل، فإنهم هم المخاطبون بها هي عامة في المعنى، فيجب على كل مكلف ذكر نعمة الله، والإيفاء بالعهد وسائر التكاليف المذكورة بعد هذا.
2 (* (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون * واستعينوا بالصبر والصلواة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) *)) 2 * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون * واستعينوا بالصبر والصلواة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) * الأمر: طلب إيجاد الفعل، ويطلق على الشأن، والفعل منه: أمر يأمر، على: فعل يفعل، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، فتقول: مر زيدا وإتمامه قليل، أومر زيدا، فإن تقدم الأمر واو أو فاء، فإثبات الهمزة أجود، وهو مما يتعدى إلى مفعولين: أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر. ويجوز حذف ذلك الحرف، وهو من أفعال محصورة تحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر جوازا تحفظ ولا يقاس عليها. البر: الصلة، وأيضا: الطاعة. قال الراجز:
* لا هم رب إن بكرا دونكا * يبرك الناس ويفخر ونكا * والبر: الفؤاد، وولد الثعلب والهر، وبر والده: أجله وأعظمه. يبره: على وزن فعل يفعل، ورجل بار، وبر، وبرت يمينه، وبر حجه: أجلها وجمع أنواعا من الخير، والبر سعة المعروف والخير، ومنه: البر والبرية للسعة. ويتناول كل خير، والإبرار: الغلبة، قال الشاعر:
ويبرون على الآبي المبر النسيان: ضد الذكر، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم، ويطلق أيضا على الترك، وضده الفعل، والفعل: نسي ينسى على فعل يفعل، ويتعدى لواحد، وقد يعلق نسي حملا على علم، قال الشاعر:
* ومن أنتم إنا نسينا من أنتم * وريحكم من أي ريح الأعاصر *