تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٥٢
وفي سبب الذبح والاستحياء أقوال وحكايات مختلفة، الله أعلم بصحتها، ومعظمها يدل على خوف فرعون من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل. والأبناء: الأطفال الذكور، يقال: إنه قتل أربعين ألف صبي. وقيل: أراد بالأبناء: الرجال، وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل، والأول أشهر. والنساء هنا: البنات، وسموا نساء باعتبار ما يؤلن إليه، أو بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهن، وقيل: أراد: النساء الكبار، والأول أشهر.
* (ويستحيون نساءكم) *: وفسر الاستحياء بالوجهين اللذين ذكرناهما عند كلامنا على المفردات، وهو أن يكون المعنى: يتركون بناتكم أحياء للخدمة، أو يفتشون أرحام نسائكم. فعلى هذا القول ظاهره أن آل فرعون هم المباشرون لذلك، ذكر أنه وكل بكل عشر نساء رجلا يحفظ من تحمل منهن. وقيل: وكل بذلك القوابل. وقد قيل: إن الاستحياء هنا من الحياء الذي هو ضد القحة، ومعناه أنهم يأتون النساء من الأعمال بما يلحقهم منه الحياء، وقدم الذبح على الاستحياء لأنه أصعب الأمور وأشقها، وهو أن يذبح ولد الرجل والمرأة اللذين كانا يرجوان النسل منه، والذبح أشق الآلام. واستحياء النساء على القول الأول ليس بعذاب، لكنه يقع العذاب بسببه من جهة إبقائهن خدما وإذاقتهن حسرة ذبح الأبناء، إن أريد بالنساء الكبار، أو ذبح الإخوة، إن أريد الأطفال، وتعلق العار بهن، إذ يبقين نساء بلا رجال فيصرن مفترشات لأعدائهن. وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الآمر بالقتل بغير حق والمباشر له شريكان في القصاص، فإن الله تعالى أغرق فرعون، وهو الآمر، وآله وهم المباشرون. وهذه مسألة يبحث فيها في علم الفقه، وفيها خلاف بين أهل العلم.
* (وفى ذالكم بلاء) *: هو إشارة إلى ذبح الأبناء واستحياء النساء، وهو المصدر الدال عليه الفعل نحو قوله تعالى: * (ولمن صبر وغفر إن ذلك) *، وهو أقرب مذكور، فيكون المراد بالبلاء: الشدة والمكروه. وقيل: يعود إلى معنى الجملة من قوله يسومونكم مع ما بعده، فيكون معنى البلاء كما تقدم. وقيل: يعود على التنيجة، وهو المصدر المفهوم من قوله: نجيناكم، فيكون البلاء هنا: النعمة ويكون ذلكم قد أشير به إلى أبعد مذكور، وهو أضعف من القول الذي قبله، والمتبادر إلى الذهن والأقرب في الذكر القول الأول.
وفي قوله: * (من ربكم عظيم) * دليل على أن الخير والشر من الله تعالى، بمعنى أنه خالقهما. وفيه رد على النصارى ومن قال بقولهم: إن الخير من الله والشر من الشيطان ووصفه بعظيم ظاهر، لأنه إن كان ذلكم إشارة إلى التنجية من آل فرعون، فلا يخفى ما في ذلك من عظم النعمة وكثرة المنة، وإن كان إشارة إلى ما بعد التنجي من السوم، أو الذبح، والاستحياء، فذلك ابتلاء عظيم شاق على النفوس، يقال إنه سخرهم فبنوا سبعة حوائط جائعة أكبادهم عارية أجسادهم، وذبح منهم أربعين ألف صبي. فأي ابتلاء أعظم من هذا وكونه عظيما هو بالنسبة للمخاطب والسامع، لا بالنسبة إلى الله تعالى، لأنه يستحيل عليه اتصافه بالاستعظام. قال القشيري: من صبر في الله على بلاء الله عوضه الله صحبة أوليائه. هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه، فجعل منهم أنبياء، وجعل منهم ملوكا، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، انتهى. ولم تزل النعم تمحو آثار النقم، قال الشاعر:
نأسوا بأموالنا آثار أيدينا ولما تقدم الأمر بذكر النعم مجملة فيما سبق، أمرهم بذكرها ثانية مفصلة، فبدأ منها بالتفضيل، ثم أمرهم باتقاء يوم لا خلاص فيه، لا بقاض حق، ولا شفيع، ولا فدية، ولا نصر، لمن لم يذكر نعمه، ولم يمتثل أمره، ولم يجتنب نهيه، وكان الأمر بالاتقاء مهما هنا، لأن من أخبر بأنه فضل على العالمين ربما استنام إلى هذا التفضيل، فأعلم أنه لا بد مع ذلك من تحصيل التقوى وعدم الاتكال على مجرد التفضيل، لأن من ابتدأك بسوابق نعمه، يجب عليك أن تتقي لواحق نقمة. ثم ثنى بذكر الإنجاء الذي به كان سبب البقاء بعد شدة اللأواء. ثم بعد ذلك ذكر تفاصيل النعماء مما نص عليه إلى قوله: * (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) *، فكان تعداد الآلاء مما يوجب جميل الذكر وجليل الثناء. وسيأتي الكلام في ترتيب هذه النعم، نعمة نعمة، إن شاء الله تعالى.
(٣٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 347 348 349 350 351 352 353 354 355 356 357 ... » »»