تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٣٢
أمر لبني إسرائيل، لأن المأمورين قبل هم، وهذا معطوف على ما قبله، فظاهره اتحاد المأمور. وقيل: أنزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه، علماء اليهود ورؤسائهم، والظاهر الأول، ويندرج فيه كعب ومن معه. وما في قوله: * (بما أنزلت) * موصولة، أي بالذي أنزلت، والعائد محذوف تقديره: أنزلته، وشروط جواز الحذف فيه موجودة، والذي أنزل تعالى هو القرآن، والذي معهم هو التوراة والإنجيل. وقال قتادة: المراد * (بما أنزلت) *: من كتاب ورسول تجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وأبعد من جعل ما مصدرية، وأن التقدير: وآمنوا بإنزالي لما معكم من التوراة، فتكون اللام في لما من تمام المصدر لا من تمام. * (مصدقا) *. وعلى القول الأول يكون * (لما معكم) * من تمام * (مصدقا) *، واللام على كلا التقديرين في لما مقوية للتعدية، كهي في قوله تعالى: * (فعال لما يريد) *. وإعراب مصدقا على قول من جعل ما مصدرية حال من ما في قوله: * (لما معكم) *. ولا نقول: يبعد ذلك لدخول حرف الجر على ذي الحال، لأن حرف الجر كما ذكرناه هو مقو للتعدية، فهو كالحرف الزائد، وصار نظير: زيد ضارب، مجردة لهند، التقدير: ضارب هندا مجردة، ثم تقدمت هذه الحال، وهذا جائز عندنا، ويبعد أن يكون حالا من المصدر المقدر لوجهين: أحدهما: الفصل بين المصدر ومعموله الحال المصدر. والوجه الثاني: أنه يبعد وصف الإنزال بالتصديق إلا أن يتجوز به، ويراد به المنزل، وعلى هذا التقدير لا يكون لما معكم من تمامه، لأنه إذا أريد به المنزل لا يكون متعديا للمفعول. والظاهر أن مصدقا حال من الضمير العائد على الموصول المحذوف، وهي حال مؤكدة، والعامل فيها أنزلت. وقيل: حال من ما في قوله: بما أنزلت، وهي حال مؤكدة أيضا.
* (ولا تكونوا أول كافر به) *: أفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة غير صفة، فإنه يبقى مفردا مذكرا، والنكرة تطابق ما قبلها، فإن كان مفردا كان مفردا، وإن كان تثنية كان تثنية، وإن كان جمعا كان جمعا، فتقول: زيد أفضل رجل، وهند أفضل امرأة، والزيدان أفضل رجلين، والزيدون أفضل رجال. ولا تخلو تلك النكرة المضاف إليها أفعل التفضيل من أن تكون صفة أو غير صفة، فإن كانت غير صفة فالمطابقة كما ذكرنا. وأجاز أبو العباس: إخوتك أفضل رجل، بالإفراد، ومنع ذلك الجمهور. وإن كانت صفة، وقد تقدم أفعل التفضيل جمع جازت المطابقة وجاز الإفراد، قال الشاعر: أنشده الفراء:
* وإذا هم طعموا فألأم طاعم * وإذا هم جاعوا فشر جياع * فأفرد بقوله: طاعم، وجمع بقوله: جياع. وإذا أفردت النكرة الصفة، وقبل أفعل التفضيل جمع، فهو عند النحويين متأول، قال الفراء: تقديره من طعم، وقال غيره: يقدر وصفا لمفرد يؤدي معنى جمع، كأنه قال: فألأم طاعم، وحذف الموصوف، وقامت الصفة مقامه، فيكون ما أضيف إليه في التقدير وفق ما تقدمه. وقال بعض الناس: يكون التجوز في الجمع، فإذا قيل مثلا الزيدون أفضل عالم، فالمعنى: كل واحد من الزيدين أفضل عالم. وهذه النكرة أصلها عند سيبويه التعريف والجمع، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع. وعند الكوفيين أن أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى، فإذا قلت: أبوك أفضل عالم، فتقديره: عندهم أبوك الأفضل العالم، وأضيف أفضل إلى ما هو هو في المعنى. وجميع أحكام أفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو. وعلى ما قررناه تأولوا أول كافر بمن كفر، أو أول حزب كفر، أو لا يكن كل واحد منكم أول كافر. والنهي عن أن تكونوا أول كافر به لا يدل ذلك على إباحة الكفر لهم ثانيا أو آخرا، فمفهوم الصفة هنا غير مراد. ولما أشكلت الأولية هنا زعم بعضهم أن أول صلة يعني زائدة، والتقدير: ولا تكونوا كافرين به، وهذا ضعيف جدا. وزعم بعضهم أن ثم محذوفا معطوفا تقديره: ولا تكونوا أول كافر به ولا آخر كافر، وجعل ذلك مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه، وخص الأولية بالذكر لأنها أفحش، لما فيها من الابتداء بها، وهذا شبيه بقول الشاعر:
(٣٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 327 328 329 330 331 332 333 334 335 336 337 ... » »»