تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٢١
لأخرجن. وزعموا أن حذف النون إذا زيدت ما بعد إن ضرورة. وذهب سيبويه والفارسي وجماعة من المتقدمين إلى أن ذلك لا يختص بالضرورة، وأنه يجوز في الكلام إثباتها وحذفها، وإن كان الإثبات أحسن. وكذلك يجوز حذف ما وإثبات النون، قال سيبويه: في هذه المسألة وإن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجيء بما، انتهى كلامه. وقد كثر السماع بعدم النون بعد إما، قال الشنفري:
* فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا * على رقة أحفى ولا أتنعل * وقال آخر:
* يا صاح إما تجدني غير ذي جدة * فما التخلي عن الإخوان من شيمي * وقال آخر:
* زعمت تماضر أنني إما أمت * تسدد أبينوها الأصاغر خلتي * والقياس يقبله، لأن ما زيدت حيث لا يمكن دخول النون، نحو قول الشاعر:
* إما أقمت وإما كنت مرتحلا * فالله يحفظ ما تبقى وما تذر * فكما جاءت هنا زائدة بعد إن، فكذلك في نحو: إما تقم يأتينكم، مبني مفتوح الآخر. واختلف في هذه الفتحة أهي للبناء، أم بني على السكون وحرك بالفتحة لالتقاء الساكنين: وقد أوضحنا ذلك في كتابنا المسمى (بالتكميل لشرح التسهيل). * (مني) *: متعلق بيأتينكم، وهذا شبيه بالالتفات، لأنه انتقل من الضمير الموضوع للجمع، أو المعظم نفسه، إلى الضمير الخاص بالمتكلم المفرد. وقد ذكرنا حكمة ذاك الضمير في: قلنا، عند شرح قوله: * (وقلنا ياءادم * ءادم * اسكن) *، وحكمة هذا الانتقال هنا أن الهدى لا يكون إلا منه وحده تعالى، فناسب الضمير الخاص كونه لا هادي إلا هو تعالى، فأعطى الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره الضمير الخاص الذي لا يحتمل غيره تعالى. وفي قوله: مني، إشارة إلى أن الخير كله منه، ولذلك جاء: * (قد جاءكم برهان من ربكم * وقد * جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء) *، فأتى بكلمة: من، الدالة على الابتداء في الأشياء، لينبه على أن ذلك صادر منه ومبتدأ من جهته تعالى، وأتى بأداة الشرط في قوله: * (فإما يأتينكم منى هدى) *، وهي تدخل على ما يتردد في وقوعه، والذي أنبهم زمان وقوعه، وإتيان الهدى واقع لا محالة، لأنه أنبهم وقت الإتيان، أو لأنه آذن ذلك بأن توحيد الله تعالى ليس شرطا فيه إتيان رسل منه، ولا إنزال كتب بذلك، بل لو لم يبعث رسلا، ولا أنزل كتبا، لكان الإيمان به واجبا، وذلك لما ركب فيهم من العقل، ونصب لهم من الأدلة، ومكن لهم من الاستدلال، كما قال:
(٣٢١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 316 317 318 319 320 321 322 323 324 325 326 ... » »»