تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٧٧
أحدها: أمواتا بالشرك فأحياكم بالتوحيد. الثاني: أمواتا بالجهل فأحياكم بالعلم. الثالث: أمواتا بالاختلاف فأحياكم بالائتلاف. الرابع: أمواتا بحياة نفوسكم وإماتتكم بإماتة نفوسكم وإحياء قلوبكم. الخامس: أمواتا عنه فأحياكم به، قاله الشبلي. السادس: أمواتا بالظواهر فأحياكم بمكاشفة السرائر، قاله ابن عطاء. السابع: أمواتا بشهودكم فأحياكم بمشاهدته ثم يميتكم عن شواهدكم ثم يحييكم بقيام الحق عنه ثم إليه ترجعون من جميع ما لكم، قاله ابن فارس.
واختار الزمخشري: أن الموت الأول كونهم نطفا في أصلاب آبائهم فجعلهم أحياء، ثم يميتهم بعد هذه الحياة، ثم يحييهم بعد الموت، ثم يحاسبهم. وجوز أيضا أن يكون المراد بالإحياء الثاني: الإحياء في القبر، وبالرجوع: النشور، وأن يراد بالإحياء الثاني أيضا النشور، وبالرجوع: المصير إلى الجزاء. وهذا الذي جوز أن يراد به الإحياء في القبر لا يفهم منه أنه يحيا للمسألة في القبر، ولا لأن ينعم فيه أو يعذب لأنه ليس مذهبه، لأن المعتزلة وأتباعهم أنكروا عذاب القبر، وأهل السنة والكرامية أثبتوه بلا خلاف بينهم، إلا أن أهل السنة يقولون: يحيا الميت الكافر فيعذب في قبره، والفاسق يجوز أن يعذب في قبره، والكرامية تقول: يعذب وهو ميت. والأحاديث الصحيحة قد استفاضت بعذاب القبر، فوجب القول به واعتقاده.
واختار صاحب المنتخب أن المراد بقوله: أمواتا أي ترابا ونطفا، لأن ابتداء خلق آدم من التراب، وخلق سائر المكلفين من أولاده، إلا عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، من النطف. قال: واختلفوا، فالأكثرون على أن إطلاق اسم الميت على الجماد مجاز، لأن الميت من يحله الموت، ولا بد أن يكون بصفة من يجوز أن يكون حيا في العادة، والقول بأنه حقيقة في الجماد مروي عن قتادة، انتهى كلامه. وتفسيره الأموات بالتراب والنطف لا يظهر ذلك في التراب، لأن المخلوق من التراب لم يتصف بالصفة التي أنكرت أو تعجب منها وقتا قط، فكيف يندرج في قوله: * (وكنتم أمواتا) *؟ والذي نختاره أن كونهم أمواتا، ومن وقت استقرارهم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها، وأن الحياة الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار من النطفة والعلقة والمضغة واكتساء العظام لحما. والإماتة الثانية هي المعهودة، والإحياء هو البعث بعد الموت. ويكون الإحياء الأول والموت الأول، والإحياء الثاني حقيقة، وأما كونهم أمواتا، فمن ذهب إلى أن الجماد يوصف بالموت حقيقة فيكون إذ ذاك حقيقة، ومن ذهب إلى المجاز فهو مجاز سائغ قريب، لأنه على كل حال موجود، فقرب اتصافه بالموت، بخلاف من زعم أنه أريد به كونه معدوما وكونه في الصلب. أو حين كان آدم طينا، فإن المجاز في ذلك بعيد لأن ذلك عدم صرف، والعدم الذي لم يسبقه وجود يبعد فيه أن يسمى موتا، ألا ترى ما أطلق عليه في اللفظ لفظ الموت مما لا تحله الحياة كيف يكون موجودا لا عدما صرفا؟ * (وءاية لهم الارض الميتة) *، * (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) *، * (إن الذى أحياها * فانظر إلى) *، * (وجعلنا من الماء كل شىء حى) *، وتقول العرب: أرض موات. وأما قول من ذهب إلى أن الموت الأول: هو الخمول، والإحياء الأول: هو التنويه والذكر، فمجاز بعيد هنا، لأنه متى أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز الحقيقة أو المجاز الغريب كان أولى.
وقد أمكن ذلك بما ذكرناه، ثم أكثر تلك الأقاويل يبعد فيها
(٢٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 272 273 274 275 276 277 278 279 280 281 282 ... » »»