تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٨٠
الطين، قال: لأنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض.
وقد تقدم قبل هذا الامتنان بجعل الأرض لنا فراشا، وهنا امتن بخلق ما فيها لنا وانتصب جميعا على الحال من المخلوق، وهي حال مؤكدة لأن لفظة ما في الأرض عام، ومعنى جميعا العموم. فهو مرادف من حيث المعنى للفظة كل كأنه قيل: ما في الأرض كله، ولا تدل على الاجتماع في الزمان، وهذا هو الفارق بين معا وجميعا. وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على مع، ومن زعم أن المعنى بقوله: ما في الأرض، الأرض وما فيها، فهو بعيد عن مدلول اللفظ، لكنه تفسير معنى من هذا اللفظ، ومن قوله تعالى: * (الذى جعل لكم الارض فراشا) *، فانتظم من هذين الأرض وما فيها خلق الله ذلك لنا. وقال الزمخشري: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء، كما تذكر السماء، ويراد بها الجهات العلوية، جاز ذلك، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية. وقال بعض المنسوبين للحقائق: خلق لكم لبعد نعمه عليكم، فتقتضي الشكرمن نفسك لتطلب المزيد منه. وقال أبو عثمان وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمنه لك من جزيل العطاء في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فإنه قد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وقبل التوحيد. وقال ابن عطاء: خلق لكم ليكون الكون كله لك وتكون لله فلا تشتغل بما لك عما أنت له. وقال بعض البغداديين: أنعم عليك بها، فإن الخلق عبدة النعم لاستيلاء النعم عليهم، فمن ظهر للحضرة أسقط عنه المنعم رؤية النعم. وقال الثوري: أعلى مقامات أهل الحقائق الانقطاع عن العلائق: والعطف بثم يقتضي التراخي في الزمان، ولا زمان إذ ذاك، فقيل: أشار بثم إلى التفاوت الحاصل بين خلق السماء والأرض في القدر، وقيل: لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والبركة فيها وتقدير الأقوات عطف بثم، إذ بين خلق الأرض والاستواء تراخ يدل على ذلك: * (قل * أئنكم * لتكفرون بالذى خلق الارض فى يومين) *، الآية. استوى أهل الحجاز على الفتح، ونجد على الإمالة. وقرئ في السبعة بهما، (وفي الاستواء هنا سبعة أقوال): أحدها: أقبل وعمد إلى خلقها وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر، وهو استعارة من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء، قال معناه الفراء، واختاره الزمخشري، وبين ما الذي استعير منه. الثاني: علا وارتفع من غير تكييف ولا تحديد، قاله الربيع بن أنس، والتقدير: علا أمره وسلطانه، واختاره الطبري. الثالث: أن يكون إلى بمعنى على، أي استوى على السماء، أي تفرد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه، ومن هذا المعنى قول الشاعر:
* فلما علونا واستوينا عليهم * تركناهم صرعى لنسر وكاسر * ومعنى هذا الاستيلاء كما قال الشاعر:
* قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق *
(٢٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 275 276 277 278 279 280 281 282 283 284 285 ... » »»