تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٨٨
أحدهما: أنه بمعنى الخلق، فيتعدى إلى واحد، قاله أبو روق، وقريب منه ما روي عن الحسن وقتادة أنه بمعنى فاعل، ولم يذكر ابن عطية غير هذا. والثاني: أنه بمعنى التصيير، فيتعدى إلى اثنين. والثاني هو في الأرض، أي: مصير في الأرض خليفة، قاله الفراء، ولم يذكر الزمخشري غيره. وكلا القولين سائغ، إلا أن الأول عندي أجود، لأنهم قالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) *؟ فظاهر هذا أنه مقابل لقوله: * (جاعل فى الارض خليفة) *. فلو كان الجعل الأول على معنى التصيير لذكره ثانيا، فكان: أتجعل فيها خليفة من يفسد فيها؟ وإذا لم يأت كذلك، كان معنى الخلق أرجح. ولا احتياج إلى تقدير خليفة لدلالة ما قبله عليه، لأنه إضمار، وكلام بغير إضمار أحسن من كلام بإضمار، وجعل الخبر اسم فاعل، لأنه يدل على الثبوت دون التجدد شيئا شيئا.
والجعل: سواء كان بمعنى الخلق أو التصيير، وكان آدم هو الخليفة على أحسن الفهوم، لم يكن إلا مرة واحدة، فلا تكرر فيه، إذ لم يخلقه أو لم يصيره خليفة إلا مرة واحدة. وقوله: في الأرض: ظاهره الأرض كلها، وهو قول الجمهور. وقيل: أرض مكة. وروى ابن سابط هذا التفسير بأنها أرض مكة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، فإن صح ذلك لم يعدل عنه، قيل: ولذلك سمي وسطها بكة، لأن الأرض بكت من تحتها، واختصت بالذكر لأنها مقر من هلك قومه من الأنبياء، ودفن بها نوح وهود وصالح بين المقام والركن، وتكون الألف واللام فيها للعهد نحو: * (فلن أبرح الارض) *، * (وكذالك مكنا ليوسف فى الارض) * * (استضعفوا فى الارض) *، وقال الشاعر:
* يقولون لي أرض الحجاز جديبة * فقلت وما لي في سوى الأرض مطلب * وقرأ الجمهور: خليفة، بالفاء، ويحتمل أن يكون بمعنى الخالف، ويحتمل أن يكون بمعنى المخلوف، وإذا كان بمعنى الفاعل كان معناه: القائم مقام غيره في الأمر الذي جعل إليه. والخليفة، قيل: هو آدم لأنه خليفة عن الملائكة الذين كانوا في الأرض، أو عن الجن بني الجان، أو عن إبليس في ملك الأرض، أو عن الله تعالى، وهو قول ابن مسعود وابن عباس. والأنبياء هم خلائف الله في أرضه، واقتصر على آدم لأنه أبو الخلائف، كما اقتصر على مضر وتميم وقيس، والمراد القبيلة. وقيل: ولد آدم لأنه يخلف بعضهم بعضا: إذا هلكت أمة خلفتها أخرى، قاله الحسن، فيكون مفردا أريد به الجمع، كما جاء: * (وهو الذى جعلكم خلائف الارض) * * (ليستخلفنهم فى الارض كما استخلف الذين من قبلهم) *. وقيل: الخليفة اسم لكل من انتقل إليه تدبير أهل الأرض والنظر في مصالحهم، كما أن كل من ولى الروم: قيصر، والفرس: كسرى، واليمن: تبع. وفي المستخلف فيه آدم قولان
(٢٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 283 284 285 286 287 288 289 290 291 292 293 ... » »»